نالت حكومة الإنقاذ والإصلاح اللبنانية، برئاسة الدكتور نواف سلام، ثقة واسعة بعدما مثلت أمام المجلس النيابي، في جلسة عقدت يومي الثلاثاء والأربعاء في 25 و26 شباط ، وخصصت لمناقشة البيان الوزاري، حيث نالت ثقة البرلمان بأكثرية «مريحة لأقصى الحدود»، وصلت الى خمسة وتسعين نائباً. وبكلام آخر، فإن الجلسة، التي تحولت إلى «هايد بارك» إنتخابي يتيح للنواب الصعود إلى المنصة، ليس لمناقشة البيان الوزاري، وإنما لمخاطبة ناخبيهم بمطالب شعبوية مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية في أيار المقبل، والتي يليها الاستحقاق النيابي في ربيع 2026، خصوصاً أن النواب يشكون من عطش الكلام الذي حُرموا منه منذ تولت الحكومة السابقة تصريف الأعمال، وهم في حاجة إلى التوجه لبيئتهم لكسب تأييدهم .
وعلى الرغم من أنّ البيان الوزاري في لبنان يهدف عادةً إلى تحديد رؤية الحكومة وأولويّاتها السياسية وفق الدستور، فقد إستخدمته الحكومات المتعاقبة كأداء إجرائيّ في سياق المناورات السياسية بدلًا من كونه إحدى أدوات الحَوْكَمَة، فقلّما عدّته الحكومات برنامجًا مُلزمًا لها، إذ ما أن يحظى البيان بموافقة البرلمان حتّى يُغيّب في الأدراج .
ولكن، هذه المرّة لربّما نشهد وضعًا مغايرًا. ذلك أنّ هذه الحكومة، بخلاف سابقاتها، ليست نتاجًا مباشرًا من سلالة الطبقة الحاكمة المسيطرة في لبنان؛ فلا الرئيس، ولا حتّى رئيس الوزراء ينحدران من مراكز القوى التقليدية التي عاثت فسادًا في البلاد ووقفت سدًّا دائماً أمام الإصلاحات، إذ وصل كلاهما إلى السلطة رغماً عن الأحزاب السياسية الحاكمة، وتمكّنا من تشكيل حكومة من 24 وزيرًا، نصفهم من ترشيحهما الشخصي، وبالتالي لن تتمكّن أيّ طائفة سياسية من حشد ثلث الأصوات وحجب الثقة عنها، لا سيّما أنّ جميع الوزراء، باستثناء ثلاثة منهم، يتقلّدون للمرّة الأولى منصبًا وزاريًّا. كما أنّ ثلثهم يأتي من خلفيّات مهنية أو إستشارية. وهذا الأمر وحده كفيل بتقديم فرصة فريدة لاستخدام البيان الوزاري من أجل وضع خطّة سياسية حقيقية، خطّة تحرّر الحكومة من القيود السياسية التي لطالما شدّدت الخناق على الحكومات السابقة .
ولكن ما تمخّض عن الحكومة لم يكن سوى وثيقة صيغت بحذر لترضي الجميع، من دون الالتزام بشيء. فباستثناء القضايا الأمنية والسيطرة على السلاح، لم تتّخذ أيّ موقف حازم بشأن أهمّ القضايا اللبنانية الملحّة، ولم تقدّم خطّةً للتعافي الوطني، ذلك أنّها كانت أقرب إلى تقديم إشارة دبلوماسية للأطراف الدولية الفاعلة، لا سيّما في ما يتعلّق بالقرار 1701
لعلّ أبرز ما يتّسم به البيان الوزاري افتقاره للموازنة بين القضايا المهمّة، إذ نجده يركّز على القضايا الأمنية والجيوسياسية على حساب القضايا الاقتصادية والاجتماعية. فقد استحوذت القضايا الأمنية على نصف البيان الوزاري، بما يوازي ثلاث صفحات وثلث الصفحة من أصل سبع صفحات، ما يشكّل تباينًا صارخًا بالنظر إلى حجم انهيار الأوضاع المحلِّية في لبنان .
وبخلاف إبتعاد البيان الوزاري عن القضايا الجوهرية، فقد صيغ بحذر وإنتقائية بالغة حتّى لا يكون معيقًا، إلى درجة أنّه شكّل وثيقة دبلوماسية أكثر منه بيانًا للحكم. كذلك، تجنّب البيان مواجهة هياكل القوّة المسيطرة التي لطالما أعاقت تقدّم لبنان، كما لم يقدّم توجُّهًا جديدًا جريئاً، بل حاول إرضاء جميع الطوائف السياسية وأصحاب المصلحة من المجتمع الدولي، من دون إثارة غضب أيّ طرف.وعلى الجانب الأمني، اتّخذ عمدًا نهج التحوُّط، مؤكّدًا أنّ اتّخاذ قرارات الحرب والسلم بيد الدولة وحدها، مشيرًا في الوقت ذاته إلى «حق لبنان في الدفاع عن النفس»، ونجح بهذا في إبقاء موضوع دور حزب الله العسكري مبهمًا.
أمّا بشأن التعافي الاقتصادي، فيكرّر البيان وعودًا مبهمة حول الإصلاحات، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وحماية الودائع، لكنّه لا يوضح وجود أيّ خطّة حقيقية. وفي حين يُقرّ البيان بالمفاوضات الجارية بين لبنان والبنك الدولي، إلّا أنّه لا يوضح الآليّة التي سيتّبعها لتسوية الإصلاحات الضرورية، في ظلّ مطالب النخب السياسية والمصرفية القوية المُعرَّضة للخسارة في حال إجراء إعادة هيكلة للقطاع .
وفي ما يتعلّق بالسياسات الاجتماعية، فقد تجنّب البيان طرح حلول منظَّمة، واكتفى بذكر تعهُّدات عامّة حول تحسين الرعاية الصحِّية، والتعليم، وتوفير الحماية الاجتماعية، من دون إدراج السياسات الوطنية الرئيسة، مثل الإستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية التي كانت ستقدّم إطارًا لاتّخاذ خطوات فاعلة على أرض الواقع .
لقد تضمن البيان الوزاري سبعة عشرة مرة " نريد" ، ولم يتضمن بالمقابل ولا كلمة "سنفعل" . لذلك نستطيع التأكيد أن النواب ورؤساء كتلهم ناقشوا ماذا يريدون من ناخبيهم ولم يناقشوا ماذا تريد الحكومة في بيانها الوزاري .
ولكن بالنظر إلى حكومة تفتقر إلى الدعم الحزبي والطائفي التقليدي، شكل البيان فرصة لفتح الباب أمام مشروع سياسي جديد يضع حجر الأساس لحَوْكَمَة من نوع مختلف، قادرة على حشد دعم شعبي واسع، ومواجهة ديناميّات القوى المسيطرة في لبنان. لقد إستطاعت هذه الحكومة أن تتّخذ ببيانها الخطوة الأولى نحو تغيير حقيقي من خلال تقديمها وثيقة مرجعية تستند إليها الحكومات في المستقبل .