في ظل الشلل المستمر الذي يضرب مؤسسات الدولة اللبنانية، شكّلت التعيينات الإدارية، المصرفية، والقضائية الأخيرة بارقة أمل للبعض، وجرس إنذار للبعض الآخر. ففي بلدٍ تُدار فيه الدولة على إيقاع التوازنات الطائفية والتجاذبات السياسية، لا تمرّ أية تعيينات من دون أن تحمل معها دلالات ورسائل، وربما تسويات مبطّنة.
لقد جاءت هذه التعيينات بعد أشهر طويلة من الشغور في مواقع حساسة، سواء في الإدارة العامة أو في القضاء أو في المؤسسات الرقابية. وإذا كان ملئ هذه الشواغر أمراً مطلوباً وملحاً لإعادة تفعيل مؤسسات الدولة، فإن الطريقة التي تمت بها هذه التعيينات تثير جملة من التساؤلات الجوهرية:
هل نحن أمام خطوة إصلاحية جدّية؟ أم أنها مجرّد إعادة تقاسم نفوذ بين أطراف المنظومة الحاكمة؟
المحاصصة أولاً... والكفاءة مؤجلة
التعيينات الأخيرة كشفت مجدداً أن منطق المحاصصة الطائفية والحزبية لا يزال يحكم الإدارة اللبنانية. المواقع توزّعت وفق الانتماءات السياسية، وليس على أساس الكفاءة أو التخصص. لم نشهد مباريات شفافة، ولا لوائح ترشيح مفتوحة، ولا معايير تقييم واضحة. كل ما في الأمر هو تسويات بين مكوّنات السلطة لتمرير أسماء محسوبة على هذا الفريق أو ذاك.
القضاء تحت الضغط... ولكن من دون استقلالية
في الشق القضائي، جاءت التعيينات كمحاولة لإنهاء حالة الشلل داخل السلطة القضائية، لا سيما في ما يتعلّق بالنيابة العامة المالية. لكن اللافت أن هذه التعيينات جاءت على وقع ضغط خارجي متزايد، خصوصاً من الاتحاد الأوروبي، الذي بات يشترط استقلالية القضاء وملء الشواغر كمقدّمة لأي مساعدة مالية أو تقنية للبنان. ومع ذلك، لا تزال السلطة السياسية ترسم خريطة التعيينات القضائية، ما يضرب مبدأ استقلال القضاء في الصميم ويجعل من القضاة أدوات في يد السلطة لا حماة للعدالة.
تعيينات مصرف لبنان: تجديد أم تدوير؟
أبرز ما سُجّل كان في مصرف لبنان، حيث تم تعيين نائبين جديدين لحاكم المصرف، وأُعيد تعيين نائبين سابقين، هما وسيم منصوري وسليم شاهين، في خطوة مثيرة للجدل وغير مألوفة في عالم التعيينات النقدية. كذلك تم تعيين رئيس وأعضاء جدد للجنة الرقابة على المصارف، في خطوة طال انتظارها وتُعدّ مفصلية في ظل الأزمة المصرفية العميقة التي تعصف بالبلاد. لكن غياب المعايير
العلنية في اختيار الأسماء، وعدم صدور أي إشارات إلى تمكين اللجنة من صلاحيات حقيقية، يثير الشكوك حول مدى قدرتها على لعب دور رقابي فعلي وفاعل.
إصلاحات شكلية تحت غطاء الضغوط الدولية
لا شك أن بعض التعيينات كانت ضرورية، وبعض الأسماء، على المستوى الشخصي، قد تكون مشهوداً لها بالكفاءة والنزاهة. لكن السؤال الأساسي يبقى: هل تم اختيارها بناءً على هذه الصفات، أم على قاعدة التوازنات السياسية؟ وهل جاءت التعيينات كترجمة لإرادة إصلاحية فعلية، أم أنها مجرّد محاولة لضبط مفاصل الدولة قبل أي استحقاق سياسي مقبل، لا سيما مع تصاعد الضغوط الدولية ومحاولات لبنان للخروج من اللائحة الرمادية للدول غير المتعاونة في مكافحة تبييض الأموال والجريمة المالية المنظمة؟
ما بعد التعيينات
التعيينات بحد ذاتها ليست مؤشراً على الإصلاح. ما يهم هو كيف تمت، ولماذا تمت، وما الصلاحيات التي ستُمنح فعلياً لمن تم تعيينهم. وهل سيسمح لهم فعلاً بفتح ملفات المساءلة والمحاسبة عن الموبقات التي ارتُكبت خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، والتي ترتقي إلى مستوى الجرائم المالية المنظمة؟
في دولة تُدار منذ عقود بمنطق الزبائنية والتسويات، لا يمكن اعتبار التعيينات بذاتها إنجازاً إصلاحياً. بل لا بدّ من كسر الحلقة الجهنمية التي تربط المواقع الإدارية، السيادية، والقضائية، بولاءات سياسية ضيقة. من دون ذلك، تبقى التعيينات مجرّد تغيير في الأسماء ضمن لعبة لم تتغيّر.