تاريخيًا، عُرف لبنان بموقعه الجغرافي الاستراتيجي (مفترق طرق بين أوروبا وآسيا وأفريقيا)، حيث كان مركزًا تجاريًا حيويًا بين الشرق والغرب. كان اقتصاده المنفتح والليبرالي في الماضي عامل جذب للمستثمرين الأجانب، وكان قطاعه المصرفي ركيزةً أساسيةً لاقتصاده والأساس الذي بُنيت عليه جميع القطاعات. كانت قواه العاملة الماهرة، لا سيما في قطاعات التجارة والخدمات المصرفية والرعاية الصحية والتعليم، لا مثيل لها في الشرق الأوسط بأكمله. الماء والشمس الوفيرة هما هبة الله التي ساعدت، في الماضي، على ازدهار زراعته. كان أعظم ما يملكه هو مزيج من الثقافات الشرقية والغربية، ومزيج من الطوائف والأديان المتعددة
اليوم، تُهيمن أزمةٌ عميقةٌ ومتعددة الجوانب على سمعة لبنان في الأخبار العالمية، في تناقضٍ صارخ مع صورته التاريخية كـ"سويسرا الشرق الأوسط". تدور الرواية حول انهيار اقتصادي وشلل سياسي وتفاقم عدم الاستقرار، حيث تُعتبر استراتيجيتها الاقتصادية التي كانت موضع إشادة في السابق قصة تحذيرية. فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 98٪ من قيمتها منذ عام 2019، مما أدى إلى تآكل كبير في القوة الشرائية. ارتفعت أسعار السلع الأساسية بشكل كبير. النظام المصرفي متجمد إلى حد كبير، مع عدم قدرة المودعين على الوصول إلى مدخراتهم، مما أدى إلى انعدام ثقة عام واسع النطاق واقتصاد غير رسمي يعتمد بشكل كبير على النقد. أكثر من 80٪ من السكان الآن في فقر، و يكافحون من أجل توفير الضروريات الأساسية مثل الغذاء والدواء والكهرباء. تعاني الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الأساسية الأخرى من ضغوط شديدة بسبب "هجرة الأدمغة" ونقص التمويل وتدهور البنية التحتية. الصراع المستمر على طول حدودها الجنوبية، ولا سيما بين حزب الله وإسرائيل، يزيد من المخاوف من تصعيد إقليمي أوسع، مما يضر أكثر بآفاق البلاد في الاستقرار والتعافي الاقتصادي. أضف إلى ذلك عدم المساءلة عن انفجار مرفأ بيروت المدمر عام 2020 والذي لا يزال حتى اليوم مصدر قلق دولي مستمر، مما يسلط الضوء على التدخل القضائي والإفلات من العقاب
يُجسّد المسار المأساوي للبنان بوضوح كيف يُمكن للصراعات الداخلية العميقة والاختلال السياسي أن يُعيق قدرة أي دولة على المشاركة في الثورة الاقتصادية العالمية والاستفادة منها. فبينما يتسارع العالم نحو التحول الرقمي وابتكارات الذكاء الاصطناعي، لا يقتصر تخلف لبنان على ذلك؛ بل إنه يفقد ميزته الاقتصادية بشكل متزايد، ويزداد عزلةً، عالقًا في دوامة من "الحروب الدينية والقضايا الخاسرة
مع توجه العالم نحو المدفوعات الرقمية والتجارة الإلكترونية والاقتصادات القائمة على الذكاء الاصطناعي، يُفاقم اعتماد لبنان على النقد عزلته. فهو لا يستطيع الاندماج في سلاسل التوريد العالمية، أو جذب الاستثمارات التكنولوجية، أو الاستفادة الكاملة من الأدوات الرقمية لتحقيق النمو. يُفيد الاقتصاد النقدي بشكل غير متناسب أولئك الذين يحصلون على دولارات جديدة (غالبًا من التحويلات المالية أو الأنشطة غير المشروعة) والمرتبطين بالشبكات غير الرسمية. تُهمل الغالبية العظمى من اللبنانيين، الذين تُحتجز مدخراتهم في البنوك أو يكسبون بالعملة المحلية التي تنخفض قيمتها بسرعة، مما يُفاقم التفاوت الاجتماعي. بدون سجلّ رسميّ رقميّ للمعاملات، تُصبح البيانات الاقتصادية نادرة وغير موثوقة. وهذا يُصعّب على الحكومة تقييم صحة الاقتصاد بدقة، أو التخطيط للتعافي، أو تطبيق سياسات مُحدّدة. الاقتصاد النقديّ يعني غياب نظام ائتمانيّ فعّال. لا تستطيع الشركات الحصول على قروض للتوسّع أو الابتكار أو خلق فرص عمل. لا يستطيع الأفراد الحصول على قروض عقارية أو قروض استهلاكية. هذا يُعيق الإنتاجية والنموّ الاقتصاديّ. والأهمّ من ذلك، يُسهّل الاقتصاد النقديّ الفساد، لأنّ المعاملات غامضة وغير قابلة للتتبّع، ممّا يُمكّن المسؤولين الفاسدين والأفراد المرتبطين بهم من إثراء أنفسهم على حساب الجمهور، وهذا ما يُمثّل قصة لبنان الحبيب.
باختصار، تحوّلت استراتيجية لبنان الاقتصادية وموقعه من نموذجٍ للديناميكيّة الإقليميّة إلى دراسة حالة تُبيّن كيف يُمكن لسوء الحكم والفساد والجمود السياسيّ أن يُفكّك اقتصادًا يبدو صامدًا، مُخلّفًا معاناةً واسعة النطاق ومكانةً عالميةً مُنخفضةً بشكلٍ كبير. يُنظر إلى دوره في الأخبار العالميّة الآن بشكلٍ رئيسيّ على أنّه إشارة تحذير لدولةٍ على شفا الهاوية، وساحةٍ لغسيل الأموال، بدلًا من أن يكون لاعبًا اقتصاديًا ذا أهميّة