الفيدرالي يثبت الفائدة… والبيت الأبيض يصعّد

الفيدرالي يثبت الفائدة… والبيت الأبيض يصعّد

في مشهد بات يتكرر في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وجد الاحتياطي الفيدرالي نفسه مجددًا في مرمى الضغط السياسي، إذ طالبه البيت الأبيض علنًا بخفض أسعار الفائدة. لكن الرد جاء بوضوح: السياسة النقدية تُصاغ في واشنطن… ولكن لا تُفرض من البيت الأبيض.

في قراره الأخير، أبقى الفيدرالي على أسعار الفائدة ضمن النطاق 4.25% إلى 4.5%، للمرة الخامسة على التوالي. قرار لم يأت من فراغ، بل يعكس توازنًا دقيقًا بين مؤشرات متضاربة: نمو اقتصادي ظاهري من جهة، وتباطؤ في الطلب المحلي وارتفاع مستمر في كلفة المعيشة من جهة أخرى.

بيانات الناتج المحلي الإجمالي تبدو واعدة: نمو بنسبة 3% في الربع الثاني. لكن ما لا يظهر في العناوين العريضة هو أن هذا النمو تغذّى جزئيًا من تراجع الواردات، وليس من ديناميكية داخلية قوية. في الواقع، تراجع الاستثمار في الأعمال وتباطؤ الإنفاق الاستهلاكي يؤشران إلى وهن في “الطلب الحقيقي”، وهو ما أشار إليه اقتصاديون من “ويلز فارجو” بقولهم إن “الطلب الخاص تباطأ للربع الثالث على التوالي”.

حتى مؤشرات التضخم، ورغم تراجعها الطفيف، ما تزال أعلى من الهدف طويل الأمد للفيدرالي (2%). التضخم الأساسي (Core PCE) لا يزال ينمو بمعدل يقارب 3%، وهو رقم مقلق في ظل استمرار الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب على سلع مستوردة من الصين ومناطق أخرى.

القرار لم يكن بالإجماع. اثنان من أعضاء مجلس المحافظين – وكلاهما من تعيين ترامب – خالفا قرار الأغلبية وطالبا بخفض الفائدة. هذا الانقسام، غير المعتاد في تقاليد الفيدرالي، يعكس تزايد الضغوط السياسية على المؤسسة التي لطالما تمسكت باستقلالها.

لكن جيروم باول، الشخصية “البين حزبية” التي عينها ترامب، اختار الانحياز إلى الأرقام لا إلى الرئيس، مدعومًا بأغلبية في لجنة السوق المفتوحة. الرسالة واضحة: السياسة النقدية تُدار بناء على البيانات لا على التغريدات.

هذه ليست مجرد مواجهة حول الفائدة، بل صراع أعمق حول من يتحكم في مفاصل السياسة الاقتصادية الأميركية. ترامب يسعى إلى إرخاء السياسة النقدية لتحفيز الاقتصاد، بينما يخشى الفيدرالي من أن خفض الفائدة الآن سيؤدي إلى تغذية دورة تضخمية يصعب السيطرة عليها لاحقًا.

كما أن هناك بُعدًا شخصيًا في هذا الصراع. فترامب، الذي هاجم باول مرارًا في العلن، يُلمّح إلى احتمال استبداله عندما تنتهي ولايته في ايار مايو المقبل. ومن المفارقات أن أحد الأسماء المتداولة لخلافته هو كريستوفر والر، أحد المعارضين الأخيرين لقرار التثبيت.

الأسواق لم تُصاب بالذعر، لكنها أيضًا لم ترتح. أسهم وول ستريت تراجعت قليلًا، والعوائد على السندات تقلّبت، بينما زادت رهانات المتداولين على خفض للفائدة في ايلول سبتمبر.

لكن الفيدرالي لا يتحرك بناء على الرهانات، بل بناء على المعطيات. والمفارقة أن المعطيات نفسها باتت اليوم أكثر غموضًا: النمو الظاهري لا يخفي هشاشة في الداخل، والتضخم لم يعد مؤقتًا، كما كان يُقال قبل عامين.

في النهاية، يُثبت الفيدرالي الأميركي أنه لا يزال يحتفظ بهامش من الاستقلال رغم العواصف السياسية. لكن هذا الهامش مهدد، ليس فقط من الرئيس، بل من البيئة العامة التي بات فيها اتخاذ قرارات اقتصادية عقلانية يتطلب صمودًا أمام الضجيج… وضد الشعبوية.

قد يجد الفيدرالي نفسه مضطرًا إلى خفض الفائدة لاحقًا، لكن إن فعل، فسيكون استجابة للوقائع الاقتصادية لا لإملاءات سياسية ولا لإرضاء الرئيس .