أميركا بين تشجيع الولادة وتقييد الهجرة: الى اين تقود سياسات ترامب البلاد ؟

 أميركا بين تشجيع الولادة وتقييد الهجرة:  الى اين تقود سياسات ترامب البلاد ؟

تشهد الولايات المتحدة الأميركية تحولات ديموغرافية عميقة تُنذر بتداعيات اقتصادية واجتماعية واسعة. فبعد أن بلغ عدد المواليد في عام 2007 ذروته عند 4.3 مليون طفل، أخذ الرقم يتراجع بصورة شبه متواصلة ليصل عام 2023 إلى 3.6 مليون فقط، وهو أدنى مستوى منذ أكثر من ثلاثة عقود. ومع بلوغ مواليد 2007 سن الثامنة عشرة هذا العام، يدخل المجتمع الأميركي مرحلة جديدة تُعرف في الأوساط الأكاديمية والسياسية باسم “الهاوية الديموغرافية”، وهي نقطة التحول التي تبدأ عندها قاعدة الشباب بالانكماش بما ينعكس مباشرة على الجامعات، سوق العمل، والاقتصاد الوطني.

تناقض في السياسات: ترامب نموذجاً

في مواجهة هذه الأزمة، اتخذ الرئيس الاميركي دونالد ترامب خطوات تبدو متناقضة في جوهرها. فمن جهة، تبنى سياسة تشجيع الإنجاب عبر مبادرته المعروفة بـ “One Big Beautiful Bill”، والتي تنص على منح كل أسرة أميركية حساباً استثمارياً بقيمة 1,000 دولار عن كل مولود جديد بين 2024 و2028. الهدف المعلن هو تحفيز العائلات على الإنجاب وتعويض التراجع الحاد في معدلات الخصوبة. لكنه في المقابل، تبنى نهجاً متشدداً حيال الهجرة، وهو الملف الذي يرى معظم الخبراء أنه يمثل “صمام الأمان” الوحيد أمام الانحدار الديموغرافي. 

فمنذ ولايته الأولى، شدد القيود على الهجرة الشرعية، وضيّق على اللجوء، وطرح خططاً لترحيل ملايين المهاجرين غير النظاميين. والآن يواصل ترامب سياسات  تهدف إلى تقليص الهجرة، في الوقت الذي يُجمع فيه خبراء الديموغرافيا على أن الهجرة هي العامل الأساسي الذي يبقي عدد سكان الولايات المتحدة في حالة نمو.

التداعيات بدأت بالفعل بالظهور في قطاع التعليم العالي. فعدد طلاب الجامعات يتراجع بشكل ملحوظ، ما دفع 31 مؤسسة تعليمية إلى إغلاق أبوابها عام 2024 وحده، 11 منها في شمال شرق البلاد، وهي منطقة تشهد منذ سنوات نزيفاً سكانياً بسبب انخفاض المواليد والهجرة الداخلية.

إغلاق الجامعات لا يُفقد الطلاب مقاعدهم فحسب، بل يترك المجتمعات المحلية في فراغ اقتصادي واجتماعي. ففي بلدة  “أورورا” بولاية نيويورك، أدى إغلاق كلية “ويلز” إلى خسارة ربع عناصر الإطفاء المتطوعين، إضافة إلى تحميل البلدة الصغيرة فاتورة قدرها 200 ألف دولار لتشغيل محطة المياه التي كانت الكلية تديرها منذ أكثر من قرن.

وتشير التقديرات إلى أن كل إغلاق جامعي يتسبب بخسارة نحو 265 وظيفة، و21 مليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي المحلي، فضلًا عن 32 مليون دولار من النشاط الاقتصادي العام.

التحدي لا يقف عند الجامعات. فشركة Lightcast لتحليلات سوق العمل توقعت أن يؤدي الجمع بين تقاعد جيل “الطفرة السكانية” وتراجع المواليد إلى عجز يُقدّر بـ 6 ملايين عامل بحلول عام 2032. هذا العجز سيتجلى في قطاعات حيوية كالرعاية الصحية، حيث يزداد الطلب مع تقدم السكان في العمر، وفي الزراعة التي تعاني أساساً من نقص العمالة المحلية.

هنا يتضح مرة أخرى التناقض في سياسات ترامب: إذ بينما يطرح حوافز مالية لتشجيع الإنجاب، يقيد في الوقت نفسه مصدر العمالة الأكثر واقعية وسرعة وهو المهاجرون. فحتى لو استجابت العائلات الأميركية للحوافز وارتفعت معدلات الخصوبة قليلاً، فإن النتائج لن تظهر إلا بعد عقدين أو أكثر، أي حين يدخل هؤلاء الأطفال سوق العمل. أما الهجرة، فهي قادرة على تزويد الاقتصاد بالعمالة الفتية فوراً.

البعد العالمي: أميركا ليست وحدها

المفارقة أن الأزمة الديموغرافية ليست أميركية فحسب. تقرير الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية (UNDESA) أكد أن معدلات الخصوبة دون مستوى الإحلال أصبحت “القاعدة الجديدة” في معظم المجتمعات، بما فيها أوروبا، الصين، كوريا الجنوبية، واليابان.

واليابان تمثل المثال الأكثر تحذيراً. فمنذ الخمسينيات، تراجع معدل الخصوبة لديها من 2.75 طفل لكل امرأة إلى 1.15 فقط عام 2023، ما أدى إلى تقلص سكاني انعكس على الاقتصاد بخسارة أكثر من تريليون دولار من الناتج المحلي، أي نحو 20% منذ 2021. وفقدت اليابان موقعها كثالث أكبر اقتصاد في العالم لتتراجع خلف ألمانيا.

الخبراء يرون أن الفارق في النمو بين الولايات المتحدة واليابان يعود بدرجة كبيرة إلى الديموغرافيا. ومع بداية الانكماش السكاني الأميركي المتوقع بحلول 2033، قد تواجه أميركا المسار نفسه إذا لم تُصحح سياساتها.

مجتمعات مهددة وتفاوت متزايد

الأثر الاجتماعي الداخلي لا يقل خطورة. فالجامعات في المناطق الريفية غالباً ما تشكل شريان حياة للمجتمع المحلي. ومع إغلاقها، يتراجع الطلب على الخدمات، تُفقد الوظائف، ويهاجر السكان بحثاً عن فرص أفضل. كما أن تقلص خيارات التعليم العالي في هذه المناطق يضعف حظوظ الشباب في الوصول إلى وظائف المستقبل، في وقت تشير فيه تقديرات مركز “جورجتاون للتعليم والقوى العاملة” إلى أن 72% من الوظائف بحلول 2031 ستتطلب تعليماً جامعياً أو تدريباً ما بعد المرحلة الثانوية.

هل النمو البطيء كارثة؟

قد يجادل البعض بأن التباطؤ السكاني لن يكون مدمراً لأميركا طالما أن معظم القوى الاقتصادية الكبرى تواجه المشكلة نفسها. فمعدل المواليد الأميركي لا يزال أعلى نسبياً من أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية. لكن الخطر الحقيقي يكمن في التفاوت الداخلي: إغلاق جامعات، انكماش المدن الصغيرة، نقص حاد في قطاعات العمل الحيوية، وضغط متزايد على نظام الضمان الاجتماعي.

الهاوية الديموغرافية ليست مشكلة قصيرة الأجل يمكن معالجتها بقرار سياسي سريع. وكما قال الاقتصادي ناثان غراوي: “لا توجد رصاصة سحرية، بل يجب التحرك من عدة زوايا في آن واحد".