اسبوع استثنائي مع خمسة من اكبر عشرة بنوك مركزية تعلن عن قرارات السياسة النقدية ، وهي قرارات تحرك الاسواق والتسعير عبر الاصول وذلك ليس فقط لأن الفيدرالي الأميركي على وشك الإعلان عن أول خفض للفائدة منذ التوقف في شهر كانون الاول ديسمبر الماضي، بل لأن ما يحيط بالقرار من أبعاد سياسية ومؤسسية بات جزء لا يتجزأ من معادلة الثقة التي يبني عليها المستثمرون قراراتهم.
في أسواق الأسهم الأميركية، أنهت المؤشرات جلسة الأمس على أداء متباين، حيث تراجع ستاندرد آند بورز 500 بنسبة طفيفة بلغت 0.1%، بينما ظل ناسداك في حركة عرضية مع ميل طفيف للهبوط في مواصله لمعنويات الانتظار والترقب قبل الحصول على كمية البيانات الكبيرة لاحقا اليوم. يمكن القول إن الحركة الصعودية لم تختفي، لكنه اصطدم بحاجز الترقب لقرار الفيدرالي وقراءة مخطط النقاط أو (SEP) الذي تحتوي على تصورات اعضاء الفيدرالي لمستقبل النمو الاقتصادي والفائدة والتضخم والتوظيف وغيرها. ورغم الحذرالملاحظ في معنويات التداول قصيرة الاجل، فإن الأسواق لم تظهر ضعف جوهري، بل حافظت على حالة من التماسك والاتجاه العرضي، الأمر الذي يعكس ثقة المستثمرين في أن توجه رئيس الاحتياطي باول تيسيري ولذلك التركيز على مدى اتجاه الخطاب التيسيري في مستقبل الايام. مخاطر الاتجاه قصير الاجل قد تنشأ من توجهات الاسواق التي يمكن وصفها بالتيسيرية الكبيرة وهو ما يفتح الباب على خيبة الامال اذا لم تتوافق هذه التصورات مع مخرجات الفيدرالي.
في أوروبا تراجعت المؤشرات بشكل جانبي بقيادة ستوكس 600، مدفوعة بانتظار مخرجات السياسة النقدية الأميركية وما قد تحمله من انعكاسات على السيولة العالمية. في المقابل كانت الصورة في آسيا أكثر إشراقاً، إذ سجلت أسواق اليابان وكوريا وتايوان قمم جديدة بدعم من توقعات خفض الفائدة الأميركية وعلى توقعات تدفقات رؤوس الأموال نحو المنطقة الباسيفك.
في سوق السندات الأميركية، انخفض العائد على السندات لأجل عشر سنوات إلى حدود 4.03% بعدما كان اعلى بقليل في الجلسة السابقة، بينما تراجع العائد على السندات القصيرة بوتيرة أسرع ولكن محافظ على مستوى 3.5% لاجال العامين. هذا الانحدار في المنحنى يعكس توقعات بأن الفيدرالي لن يكتفي بخطوة ايلول سبتمبر، بل سيمضي في خفض إضافي قد يصل إلى 75 نقطة أساس بحلول نهاية العام. ومع ذلك، يظل القلق حاضر بشأن أوضاع المالية العامة والعجز، وهو ما يفسر جزء من ميل المستثمرين إلى تعزيز مراكزهم في الذهب كتموضع استراتيجي لتنويع مخاطر منحنى العوائد.
وفي سوق اخر ، سجل مؤشر الدولار تراجع إلى أدنى مستوياته منذ تموز يوليو عند 97.3، الأمر الذي بدوره عزز مكاسب اليورو والجنيه الإسترليني. ضعف الدولار هنا لا يعكس فقط تسعير الخفض، بل يعكس أيضا شكوك متزايدة حول استقلالية الفيدرالي بعد التطورات الأخيرة في مجلسه. ذلك بعد اقرار مجلس الشيوخ تعيين ستيفن ميران في مجلس محافظي الفيدرالي بفارق ضئيل للغاية يتشكل في صوت واحد. ميران يشغل في الوقت ذاته منصب مستشار اقتصادي للبيت الأبيض، في سابقة هي الأولى منذ نحو تسع عقود، وهو ما أثارتساؤلات بشأن استقلالية المؤسسة النقدية الأهم في العالم. هذا التطور او هندسة مجلس الفيدرالي عزز المخاوف من أن القرارات النقدية قد تتأثر بالسياسة المباشرة، في وقت يحتاج فيه الفيدرالي إلى تأكيد مصداقيته أكثر من أي وقت مضى. وبالرغم من ذلك لا تأخذ الاسواق الكبير من الاعتبار في التسعير لهذه التفاصيل لان المخرجات من الفيدرالي شبه مؤكدة بالتيسير على الاقل على المدى القصير ولكن نقطة هندسة مجلس الفيدرالي قد تثير قلق عميق واعادة تسعير على المدى المتوسط وخصوصا اذا رأينا تسارع في الضغوط التضخمية وموقف متحفظ من الفيدرالي خلال الارباع القادمة.
الذهب هو الادارة الأكثر وضوح لهذه البيئة المتغيرة ، إذ واصل الارتفاع إلى مستويات تاريخية جديدة قرب 3689 دولار للأونصة، محقق صعود مدفوع بمزيج من تراجع العوائد وضعف الدولار والمخاطر السياسية التي تهدد مصداقية الفيدرالي. تقارير من المؤسسات المالية إلى أن أي تحول أموال المستثمرين من سوق السندات إلى الذهب قد يدفع المعدن إلى مستويات تصل إلى اعلى من الاسعار الحالية، خاصة إذا تراجعت الثقة في سندات الخزانة والدولار كركيزتين للنظام المالي العالمي. ورغم أن التوقعات الأساسية أكثر تحفظ ، حيث تدور بين 3700 و4000 دولار في الأفق المتوسط مع سقف اعلى بحسب تقديرات بيوت الخبرة، فإن القاسم المشترك هو أن الذهب اصبح اداة تحوط ليس فقط لمخاطرالتضخم بل ايضاً للمخاطر المؤسسية والسياسية.
الأنظار اليوم مسلطة على ما ستحمله كلمات جيروم باول خلال المؤتمر الصحفي بقدر ما هي مركزة على قرار الخفض ذاته. الأسواق تعلم أن خطوة خفض بمقدار 25 نقطة أساس شبه محسومة، لكن ما سيحرك الأصول هو اللغة المستخدمة في بيان الفيدرالي وتحديثاتSEP. إذا جاءت التوقعات لتؤكد مسار خفض إضافي تدريجي خلال الأشهر المقبلة ، فإن الأسهم ستجد محفز اضافي لمواصلة الصعود وسيبقى الذهب مدعوم من هذه الخلفية.
الأسواق تقف اليوم عند نقطة فاصلة ومثيرة للمتابعة. المسار الأساسي يظل مرجح لخفض تدريجي يضمن دعم للنمو ويحافظ على سوق العمل من مواصلت التدهور، لكن التحدي الحقيقي يتمثل في أن باول والفيدرالي لم يعودوا يتعاملون مع معادلة اقتصادية بحتة ، بل مع سياق سياسي ضاغط. لذلك، فإن الثقة في استقلالية الفيدرالي ومصداقيته ستكون احد العوامل الأكثر حسماً في تحديد اتجاه الأصول من هنا وحتى نهاية العام.