مجلس النواب في لبنان : شرعية دستورية مفقودة ومسؤوليات مؤجلة

 مجلس النواب في لبنان : شرعية  دستورية مفقودة ومسؤوليات مؤجلة

يشكّل مجلس النواب اللبناني وفق الدستور الركن الأساسي في ممارسة السلطة التشريعية والرقابية وتمثيل الشعب، وهو المؤسسة التي يفترض أن تجسّد الإرادة الوطنية الجامعة وتعبّر عن تطلعات اللبنانيين في بناء دولة القانون والمؤسسات. وقد أناط به الدستور مهمة سنّ القوانين ومناقشتها وإقرارها، فضلاً عن صلاحية اقتراح التشريعات من قبل الحكومة أو عشرة نواب على الأقل، والمصادقة على الموازنة العامة للدولة والمعاهدات الدولية التي تتعلّق بالسيادة والمالية العامة والعلاقات الخارجية. كما يمارس المجلس دوراً رقابياً جوهرياً يتمثل في مساءلة الحكومة ومراقبة أدائها، عبر توجيه الأسئلة والاستجوابات للوزراء وطرح الثقة بالحكومة أو بأحد أعضائها عند الضرورة، إضافة إلى صلاحية إنشاء لجان تحقيق برلمانية تتولى التحقق من قضايا وطنية أو مالية أو إدارية كبرى. ويؤدي النواب أيضاً دوراً دستورياً وسياسياً محورياً في انتخاب رئيس الجمهورية ومنح الثقة للحكومة الجديدة وتعديل الدستور عند الحاجة، فضلاً عن مسؤولية ملء الشواغر الدستورية وتنظيم الانتخابات النيابية والبلدية، في حين يعبّر البعد التمثيلي عن جوهر عملهم، إذ تنصّ المادة 27 من الدستور على أن النائب يمثل الأمة جمعاء، لا منطقته أو طائفته، وأن عليه أن ينقل مطالب المواطنين إلى المؤسسات الرسمية ويساهم في صياغة السياسات العامة التي تعكس مصالحهم.

غير أن الممارسة الفعلية خلال الأعوام الأخيرة، لا سيما في السنوات العشر الأخيرة، أظهرت تراجعاً خطيراً في أداء المجلس وابتعاده عن مقتضيات دوره الدستوري، إذ بات يعمل بصورة انتقائية تتأثر بالمصالح السياسية والحزبية أكثر مما تستند إلى المعايير الوطنية والشفافية المؤسسية. فقد أُقرّت موازنة عام 2024 من دون إدخال إصلاحات حقيقية على هيكلية القطاع العام أو الإيرادات، ما جعلها أداة جباية إضافية أثقلت كاهل الفئات الضعيفة والمتوسطة في ظل تصاعد معدلات التضخم وانهيار القدرة الشرائية. أما موازنة عام 2025، فقد وُصفت بأنها مخالفة للدستور، إذ جرى اعتمادها بمرسوم من دون نقاش برلماني فعلي، ودون تعديلٍ يُراعي التغيّرات الاقتصادية الكبيرة التي شهدها لبنان والمنطقة بعد حرب السابع من تشرين الأول، في مخالفة واضحة للمادة 86 من الدستور التي تلزم الحكومة بإرسال مشروع الموازنة إلى المجلس النيابي ضمن المهل القانونية أو دعوته إلى جلسة استثنائية في حال التأخير.

وإلى جانب ذلك، شكّل تأجيل الانتخابات البلدية المتكرر سابقة مقلقة في تعطيل الاستحقاقات الديموقراطية المحلية، بحيث مُدّدت ولاية المجالس البلدية بشكل مخالف لروح الدستور ومبدأ تداول السلطة، الأمر الذي عكس تراجعاً في احترام الشرعية الانتخابية. كما أثار قانون استقلال القضاء، رغم أهميته الظاهرية، انتقادات واسعة بسبب ما تضمّنه من ثغرات تسمح بتدخل السلطة التنفيذية في عمل النيابات العامة، فضلاً عن تمريره في المجلس من دون نقاش كافٍ أو مراجعة معمّقة لنصوصه، ما قلّل من شفافية العملية التشريعية وأضعف الثقة العامة بها. كذلك جاءت السياسات المالية والضريبية الحديثة لتكشف عن انحرافٍ في مفهوم العدالة الاجتماعية، إذ فُرضت ضرائب ورسوم جديدة من دون تأمين شبكات حماية اجتماعية، ما حمّل المواطنين الفقراء والطبقات الوسطى أعباء إضافية في ظل غياب سياسات اقتصادية متكاملة للنهوض أو التوزيع العادل للثروات.

أما على المستوى الإجرائي، فقد تكررت الممارسات التي تفتقر إلى الشفافية، من إدخال تعديلات على القوانين في اللحظات الأخيرة إلى تحديد جلسات التصويت دون تمكين النواب من الاطلاع الكافي على النصوص، وصولاً إلى تجاهل اعتراضات كتل المعارضة أو تمرير مشاريع القوانين بشكل متسرّع تحت ذرائع الحفاظ على النصاب. كل هذه العوامل مجتمعة أسهمت في إضعاف دور المجلس وتحويله من سلطة تشريعية مستقلة إلى ساحة لتقاطع المصالح السياسية الضيقة، الأمر الذي انعكس سلباً على الثقة الشعبية بالمؤسسات الدستورية وأدى إلى مزيد من الفجوة بين الدولة والمواطنين.

إن أهمية هذه الإخفاقات لا تكمن فقط في بعدها القانوني أو الإجرائي، بل في تداعياتها العميقة على الاستقرار السياسي والاجتماعي في لبنان، إذ إن التشريعات غير المتوازنة أو المخالفة للدستور تضعف مبدأ الشرعية والمساءلة، كما أن تعطيل الإصلاحات القضائية والمالية يعوق فرص البلاد في استعادة ثقة المجتمع الدولي والحصول على المساعدات الضرورية. كذلك فإن تحميل الفئات الضعيفة أعباء إضافية دون حماية اجتماعية يزيد من معدلات الفقر والاحتقان ويهدد الأمن الاجتماعي. ويُضاف إلى ذلك أن فشل المجلس في أداء دوره الإصلاحي والتحديثي يقوّض إمكان النهوض التشريعي والمؤسساتي المطلوب لإنقاذ الدولة من أزمتها المزمنة. من هنا، تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة تفعيل المجلس النيابي وفقاً لمقتضيات الدستور، واستعادة دوره كسلطة مستقلة تمارس التشريع والرقابة بموضوعية وشفافية، بما يعيد الثقة بين المواطنين والدولة ويؤسس لمرحلة إصلاحية حقيقية تنسجم مع تطلعات اللبنانيين إلى حكم رشيد ومؤسسات فاعلة.