منذ أشهر ,والنقاش يدور حول ما بات محور العملية السياسية في لبنان ألا وهي مسألة الفجوة المالية وقانون التسوية الذي سيتضمن توزيع الخسائر بطريقة عادلة بحيث يضمن تحريك ما يسمى بقانون تسوية أوضاع المصارف. تُعدّ مسألة الفجوة المالية في لبنان من أكثر الملفات التي جرى التلاعب بها سياسياً واقتصادياً في السنوات الأخيرة. فقد تحوّلت من قضية تقنية إلى شعار يُستعمل لتبرير السياسات وتصفية الحسابات، فيما يغيب عنها النقاش الجدي حول من صنعها ومن استفاد منها. وبين الأرقام التي تتداولها الحكومة ومصرف لبنان وصندوق النقد الدولي، تتكشّف حقيقة أنّ الفجوة ليست "حادثة مالية" عرضية، بل حصيلة منظومة كاملة من التواطؤ والإهمال والفساد المالي الممنهج.
الرائج في الخطاب الرسمي أنّ الفجوة تبلغ ما بين 70 و75 مليار دولار، تُقدَّم كأنها خسارة قدرية نتجت عن ظروف اقتصادية وسياسات نقدية غير موفّقة.
غير أنّ هذا الخطاب يخفي خلفه سلسلة من القرارات السياسية المقصودة التي راكمت الدين العام وبدّدت أموال المودعين تحت عنوان "تمويل الدولة". فقد تولّى مصرف لبنان، بتغطية حكومات متعاقبة ووزارات مالية متورطة بالصرف غير المسؤول، تمويل عجز الموازنة لعقود طويلة عبر هندسات مالية مكلفة، تُرضي المصارف وتُطيل عمر السلطة، مقابل تحميل الكلفة للأجيال القادمة.
الواقع يبيّن أن الفجوة ليست مجرد أرقام في دفاتر مصرف لبنان، بل هي الفارق بين ما جُبي من اللبنانيين وما نُهب منهم. فجزء كبير من الخسائر هو نتيجة تداخل حسابات الدولة والمصرف المركزي، حيث تمّ تمويل الإنفاق العام والزبائنية السياسية من أموال المودعين، فيما استفاد كبار السياسيين والمصرفيين من أرباح الفوائد والهندسات. وبالتالي، فإنّ القول إنّ الفجوة "محاسبية" هو تبسيط خطير، لأنها في جوهرها سياسية بامتياز، ناتجة عن تواطؤ أطراف المنظومة المالية والنقدية في اقتسام الريع والربح على حساب الخزينة والناس.
أما تضخيم أو تقليص حجم الفجوة في الخطاب الرسمي، فليس بريئاً هو الآخر. تضخيمها يخدم السلطة التنفيذية لتبرير التهرّب من المسؤولية وتحميل الكلفة للمودعين والمواطنين عبر ما يُسمّى "خطة التعافي"، فيما تقليلها يخدم المصارف وحلفاءها السياسيين الراغبين بإخفاء حجم التورط والفشل في إدارة المخاطر. وبين الطرفين، تضيع الحقيقة ويتكرّس الإفلات من المحاسبة.
إنّ معالجة الفجوة لا تبدأ بالأرقام بل بالمساءلة. يجب كشف من قرّر تمويل الدولة عبر المصرف المركزي خلافاً لكل قواعد الإدارة المالية، ومن صادق على الموازنات الوهمية، ومن راكم الأرباح الفاحشة من فوائد الدين العام، ومن سمح بتهريب الرساميل بعد تشرين 2019. فلا يمكن الحديث عن خطة إصلاحية ما لم تُحدَّد المسؤوليات بوضوح ويُصار إلى توزيع الخسائر وفق مبدأ العدالة لا النفوذ.
في الخلاصة، الفجوة المالية في لبنان ليست رقماً عارضاً ولا خطأ محاسبياً، بل مرآة لنظام سياسي – مصرفي – نقدي تواطأ على نهب الثروة الوطنية. أما ردمها، فلا يكون بتجميل الواقع ولا بتحميل الناس كلفة الانهيار، بل بإطلاق مسار حقيقي للمساءلة والمحاسبة والإصلاح، يبدأ من أعلى هرم السلطة وينتهي بإعادة بناء الدولة على قاعدة الشفافية والمسؤولية.
د