لم يكن يبحث عن تعاطف، فقط أراد أن يسمعه أحد قبل أن يضع حدًا لحياته، كتب: 'أنا تعبت… بس ما حدا شايفني'. هذه الكلمات ليست من رواية حزينة، بل من رسالة وداع حقيقية كتبها شاب لبناني في مطلع الثلاثينات، مثله كثيرون يمشون بيننا ولا نسمع صراخهم الصامت.
شهد لبنان خلال عام 2023 ارتفاعًا في حالات الانتحار بنسبة تفوق 21%، رغم أن الأرقام الرسمية لا تعكس الواقع الكامل، بسبب الوصمة والخوف من التبليغ. هذه الزيادة ليست رقمًا فقط، بل صرخة مجتمعية تحتاج إلى من يسمعها.
الأخطر أن الفئة العمرية الأكثر عرضة للتفكير بالانتحار اليوم هم المراهقون. دراسة حديثة أظهرت أن نحو 30% من طلاب المرحلة الثانوية في لبنان مرّوا بأفكار انتحارية، وهي نسبة تنذر بكارثة صامتة.
وما زلنا، كمجتمع، نخاف أن نفتح النقاش، نخجل من زيارة الطبيب النفسي. نُسكت أبناءنا حين يقولون "أنا مش منيح". ولكن الواقع واضح: الانتحار لا يُحل بالصمت، الصمت هو ما يقتله
لكن ما الذي يدفع شابًا، أو أمًا، أو مراهقًا إلى هذا القرار القاتل؟
توماس جوينر (Thomas Joiner) –في نظريته "Interpersonal Theory of Suicide"، حدد ثلاثة عوامل أساسية:
- شعور بالعبء على الآخرين
- العزلة والانفصال عن الروابط
- القدرة المكتسبة على الإقدام على الانتحار (نتيجة التعرض للألم/الخطر مرارًا)
الانتحار فعل نفسي مركّب، تتفاعل فيه عوامل اجتماعية، معرفية، عاطفية، وحتى بيولوجية.
من وجهة نظرنا كمعالجين، هناك عدة عوامل نفسية متشابكة:
الانتحار ليس لحظة ضعف، بل نتيجة تراكمات نفسية مؤلمة لم تجد مساحة للتفريغ أو الفهم. في عياداتنا النفسية، بتنا نرى حالات متزايدة من الاكتئاب الحاد، نوبات الهلع، واضطرابات ما بعد الصدمة، وفي عمق الكثير من هذه الحالات يكمن سؤال صامت: "هل تستحق هذه الحياة أن تُعاش؟
- تدهور الصحة النفسية الجماعية نتيجة الأزمات المتكررة (انفجار بيروت، الانهيار المالي، الهجرة...
- الافتقار إلى الدعم الاجتماعي الحقيقي، لا سيما في العائلات التي ترفض الاعتراف بالمعاناة النفسية.
- غياب التربية العاطفية في المدارس والمنازل، فلا يعرف الفرد كيف يعبّر عن غضبه أو خيبته إلا بالصمت أو العنف الذاتي.
في بلد ينهار كل شيء فيه تدريجياً — من العملة، إلى المؤسسات، إلى الثقة — يصبح الأمل عبئًا ثقيلًا. الحياة اليومية باتت صراعًا وجوديًا ، إحساس دائم بعدم الأمان... كل هذا ليس فقط ضغطًا اقتصاديًا، بل ضغط نفسي قاتل، ما نواجهه اليوم في لبنان ليس فقط أزمة اقتصادية، بل أزمة هوية نفسية عميقة. المريض النفسي لم يعد يبحث عن علاج فقط، بل عن معنى، عن أمان، عن من يسمعه دون حكم. وقد أصبح الانتحار، بالنسبة للبعض، محاولة لإنهاء ألم غير مرئي، لا تُجدي معه كلمات المواساة السريعة أو النصائح المعلبة.
ماذا يمكن أن نفعل؟
من موقعي كمعالجة نفسية، أؤمن أن الوقاية من الانتحار تبدأ من التثقيف النفسي المبكر.
الانتحار ليس قرارًا مفاجئًا، بل سلسلة من الرسائل التي لم تُقرأ.
ولكل شخص يشعر أنه على الحافة: أنت لست وحدك، مشاعرك مفهومة. وطلب المساعدة ليس ضعفًا، بل شجاعة.
دعونا نحول الصمت إلى إصغاء، والوصمة إلى تعاطف، والألم إلى بداية علاج.
الانتحار كنداء نفسي وليس رغبة في الموت
في العديد من الحالات، لا يريد الشخص “الموت” فعليًا، بل يريد النجاة من الألم. الانتحار هنا هو “محاولة لإسكات الصراخ الداخلي” عندما تغيب أدوات التعبير، الاحتواء، أو الأمل
المجتمع اللبناني، رغم انفتاحه الظاهري، لا يزال يُحمّل العار لمَن يُعبّر عن معاناته النفسية. الكثير من الناس يخشون طلب المساعدة خوفًا من الوصمة. وهنا، يبدأ الاحتراق الداخلي: الشخص لا يملك حق التعبير، ولا يجد أذناً تستمع
منذ 2019، توالت الصدمات: انهيار اقتصادي، انفجار المرفأ، فقدان الأمان، تفكك الروابط العائلية والهجرة… كل ذلك ساهم في تآكل المرونة النفسية. أصبح العقل منهكًا، والجهاز العصبي في حالة تأهب ما يجعل الفرد عرضة لقلق دائم واكتئاب مزمن، عدم توازن الجهاز العصبي والجسد العالق في "الخطر.
الأهم: لا أحد "يريد الموت" بقدر ما يريد النجاة من معاناة لا تُحتمل.
اليوم، أكثر من أي وقت، نحتاج أن نكون منصتين. أن نراقب العلامات الصغيرة. أن نسأل: كيفك؟ وننتظر الجواب فعلًا، أن نشجع على طلب المساعدة النفسية من دون خجل أو لوم
توصيات للأسرة:
الإنصات بدل المحاسبة:
لا يجب أن يكون الحديث عن الألم أو التعب النفسي مدعاة للوم، بل مساحة مفتوحة للحديث الآمن والداعم.
عدم الاستخفاف بأي إشارة:
لا تستهينوا بجملة مثل "تعبت من الحياة" أو "ما بقى في شي بيهمني"، فهذه مؤشرات تستحق الانتباه الجدي.
المرافقة لا السيطرة:
حاولوا أن تكونوا سندًا عاطفيًا، لا رقيبًا قاسيًا. الشخص الذي يعاني لا يحتاج إلى أوامر، بل إلى أمان.
طلب المساعدة المتخصصة:
لا تنتظروا "أن يتحسّن وحده". العلاج النفسي ليس ترفًا، بل ضرورة في لحظات الألم العميق.
توصيات للمجتمع:
كسر وصمة العار:
الحديث عن الصحة النفسية يجب أن يكون طبيعيًا ومشروعًا كأي موضوع صحي آخر. الصمت يقتل.
تعزيز برامج الوقاية في المدارس والجامعات:
عبر مختصين نفسيين مؤهلين يمكن اكتشاف الحالات المبكرة وتوجيهها نحو الدعم الصحيح.
خطوط دعم نفسي مجانية وسرية:
وجود خدمات طوارئ نفسية يُخفف من الأذى ويعطي شعورًا بأن هناك دائمًا باب مفتوح.
الإعلام كمسؤولية لا وسيلة إثارة:
عند تناول حالات الانتحار، يجب أن يكون الخطاب توعويًا ومسؤولًا، لا مشجعًا أو عاطفيًا بزيادة.
الانتحار ليس قرارا" بل صرخة أخيرة في وجه ألم لا يحتمل.
علينا جميعا" كأسرة ومجتمع ، أن نتعلم كيف نكون صوت الأمل في حياة أحدهم... قبل أن يغلق الباب تماما".