في عام 2025، لم يكن الاقتصاد اللبناني ضحية سوء حظ أو رهينة ظروف خارجة عن السيطرة، بل كان ضحية جريمة سياسية مكتملة الأركان. جريمة ارتكبتها طبقة حاكمة قررت، بوعي كامل، أن تُبقي الانهيار مفتوحاً، وأن تحكم بلداً مكسوراً بلا دولة، وبلا خطة، وبلا أي التزام أخلاقي أو وطني بالإنقاذ. ما نعيشه ليس أزمة، بل انحداراً منظّماً، تُدار فصوله على مهل، كي لا يسقط دفعة واحدة، وكي لا يُسأل أحد عن المسؤولية.
بعد أكثر من خمس سنوات على الانفجار المالي، دخل لبنان 2025 محمّلاً بخسائر غير موزّعة لأن أحداً لا يريد تحمّلها، وبنظام سياسي يعيش على إنكار الواقع. لم تُبنَ أي خطة تعافٍ، ولم تُتَّخذ أي قرارات صعبة، بل جرى تعميم سياسة “تدوير الزوايا”: استقرار نقدي شكلي، بيانات متفائلة، وخطاب رسمي يتصرّف كأن الانهيار قد انتهى، فيما المجتمع ينزف بصمت.
القطاع المصرفي هو المثال الأوضح على هذا التواطؤ. مصارف مفلسة تُترك معلّقة قسراً، ودائع محتجزة بلا أفق، وحقوق مهدورة بلا مساءلة. لا إعادة هيكلة لأن ذلك يتطلب الاعتراف بالخسائر، ولا توزيعاً عادلاً لأن ذلك يضرب شبكة المصالح. فُرِض شلل الائتمان عمداً، وخُنقت القطاعات المنتجة، وتحول النظام المصرفي من أداة نمو إلى قيدٍ على الاقتصاد. أما مصرف لبنان، فزُجّ به في موقع حارس الاستقرار الوهمي، يستهلك ما تبقى من أدوات نقدية ليشتري وقتاً لسلطة ترفض الإصلاح، وكأن النقد سياسة بديلة عن الدولة.
المالية العامة ليست أفضل حالاً. دولة بلا رؤية، بلا تخطيط، وبلا شجاعة. عجز مستمر لا يمول استثماراً ولا يحمي مجتمعاً، بل يعكس فشلاً مزمناً في الجباية، وتواطؤاً مع التهرّب الضريبي، واستسلاماً لاقتصاد الكاش. في المقابل، جرى تدمير الإنفاق الاستثماري، وترك البنى التحتية تتحلل، لتصبح الكهرباء والمياه والاتصالات رموزاً لفشل الدولة لا أدوات للنمو. هكذا رُفعت كلفة الإنتاج، ودُفنت أي فرصة تنافسية متبقية.
القطاعات الإنتاجية لم تُهزم في السوق، بل أُهملت حتى الاختناق. الصناعة تُركت تواجه طاقة باهظة وتمويلاً معدوماً وأسواقاً مغلقة، بلا أي سياسة حماية أو تحفيز. الزراعة، التي كان يمكن أن تشكّل خط دفاع اقتصادي وغذائي، جرى التعامل معها كقطاع هامشي: دعم غائب، مدخلات مرتفعة، ومناطق متضررة أمنياً، ما عمّق الارتهان للاستيراد وفضح هشاشة السيادة الاقتصادية.
أما التجارة والخدمات، فدُفعت إلى اقتصاد البقاء. تضخم يلتهم الأجور، وسلطة ترفض أي سياسة دخل أو حماية اجتماعية. السوق تقلّصت، والاستهلاك انكمش، والاستثمار اختفى. لم يعد السؤال كيف ننمو، بل كيف نصمد يوماً إضافياً.
السياحة، التي طالما استُخدمت كمسكّن سياسي، سقطت بدورها في 2025. مواسم مرهونة بالتوترات الإقليمية، وضجيج بلا استراتيجية، وعائدات متقلّبة لا تنقذ اقتصاداً ولا تبني قطاعاً. لم تعد السياحة صمام أمان، بل مرآة هشاشة.
في سوق العمل، ظهرت الفاتورة الاجتماعية كاملة: بطالة مقنّعة، توسّع الاقتصاد غير المنظّم، وهجرة كفاءات تشبه النزف البطيء. دولة لا تنظّم، ولا تحمي، ولا تخلق فرصاً. مجتمع ينقسم بين أقلية تعيش على الدولار وأكثرية تُسحق بأجور فقدت قيمتها. هذه ليست أزمة سوق عمل، بل تفكك عقد اجتماعي.
أما الاستثمار، فكان أول من غادر وآخر من يفكّر بالعودة. ليس لأن لبنان بلا فرص، بل لأنه بلا دولة. لا قضاء يُطمئن، ولا قوانين تُحترم، ولا سياسات تُفهم. وتأجيل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لم يكن عجزاً تقنياً، بل قراراً سياسياً للهروب من الإصلاح والمحاسبة، ولو على حساب الانهيار الشامل.
خلاصة 2025 قاسية وواضحة: الاقتصاد اللبناني لم يسقط بفعل الكوارث، بل بفعل خيار سياسي واعٍ بعدم الإنقاذ. نحن أمام استقرار زائف، وبقاء مزيّف، ودولة تتقن إدارة الانهيار أكثر مما تتقن بناء الحلول. والسؤال لم يعد اقتصادياً ولا مالياً، بل وجودياً:
ليُسمح لهذا البلد أن ينهض بسلطة ترفض الإصلاح؟ أم أن استمرار هذه الطبقة الحاكمة يعني ببساطة استمرار الانهيار… إلى أن يصبح الانهيار هو النظام؟