من يسرق ليرتي... يسرق حريتي"

من يسرق ليرتي... يسرق حريتي"

في لبنان، لا تُسرق الأموال من خزائن البيوت ولا من جيوب المارة، بل تُسرق من داخل البنوك، من الشاشات التي ما زالت تُظهِر أرقاماً خضراء، لا يحقّ لصاحبها أن يلمسها أو يصرفها أو يورّثها. منذ العام 2019، حين انفجرت الأزمة، أغلقت المصارف أبوابها بوقاحة لا تخجل، ثم أعادت فتحها بشروط تضعها وحدها، وسحبت منّا أعمارنا التي ادّخرناها، ثم بدأت تفرض رسوماً على هذه الأعمار المصادرة، تحت اسم "رسم إدارة الحساب"... اثنا عشر دولارًا شهريًا، لقاء ماذا؟ لا خدمة مصرفية، لا تحويل، لا سحب، لا حتى وعد بردّ الحق. بل فقط للحفاظ على الرقم ظاهرًا أمام المودع، كصورة ميت في برّاد المستشفى، لا يدفنونه، ولا يعيدونه للحياة. هذا وقد حصلت هذه الأمور بغياب كامل للسلطة السياسية التي من المفترض أنها المعنية بالحفاظ على حقوق الأفراد والملكية الخاصة الملحوظة في الدستور.أما الفضيحة الأكبر فتتحملها السلطة السياسية ألا وهي تقاعسها عن إقرار قانون الكابيتال كونترول منذ اللحظات الأولى لبدعة إقفال المصارف وما زالت السلطة متقاعسة حتى الآن.

منذ أكثر من خمس سنوات، وكل من يملك حسابًا بالدولار في لبنان يعيش في ظلال خدعة اسمها "اللولار"، أي دولارات محجوزة، لا يحق له سحبها إلا على سعر 15,000 ليرة للدولار الواحد، فيما المصارف نفسها تحتسب المبالغ المخصومة كدولارات حقيقية، وتحولها داخليًا إلى "فريش دولار"، أي إلى دولارات قابلة للتحويل إلى الخارج أو السحب نقدًا، بسعر السوق الذي يناهز 90,000 ليرة. بعبارة أكثر وضوحًا: البنك يخصم من حسابك 12 دولارًا "لولار"، أي ما يوازي 180,000 ليرة، ثم يحتسب لنفسه هذا المبلغ كـ 12 دولارًا فريش، أي ما يوازي 1,080,000 ليرة. الفرق بين المبلغين هو ربح خالص للبنك، لا يدفع مقابله خدمة، ولا يخضع للرقابة، ولا يُسجّل عليه كإثم أو دين. هذه ليست رسوم إدارة حساب... بل جباية على الوهم، وفوقها يربح المصرف من الهوة بين السعرين، فيسجّل على حسابك دينًا وهميًا، وعلى حسابه ربحًا حقيقيًا.

لنفترض أن لدى بنك ما مئة حساب فقط، وهو عدد تافه مقارنة بحجم الزبائن في لبنان، فإن أرباحه من رسوم الـ12 دولار شهريًا تُقدَّر بأكثر من 90 مليون ليرة لبنانية شهريًا، أي أكثر من مليار ليرة سنويًا، أي أكثر من 6 مليارات منذ اندلاع الأزمة حتى اليوم. من دون أن يحرّك الاقتصاد، أو يوفّر خدمات، أو يعيد أي شيء

لأصحابه. بل الأسوأ، أن هذه الرسوم تخفّف من التزام البنك تجاه المودع، لأنها ببساطة تخفّض من قيمة الدين المفترض على البنك سداده يومًا ما، إن عاد للوفاء يومًا. فكل دولار يُخصم من حسابك، هو دولار لن تعود تطالبه به، لأنك دفعت ثمن احتجازه طوعًا، وأنت تظن أنك ما زلت تملكه.

هذه ليست أزمة سيولة، بل فضيحة نظام. فالمصارف لا تقرض من ودائع الناس كما يعتقد كثيرون، بل تخلق المال من لا شيء. تمنح قرضًا بلمسة زر، ثم تطالبك بسداده وفائدة حقيقية على مال غير موجود أصلًا. هذا هو ما يُعرف في علم المال بـ"خلق النقود الائتمانية"، حيث المال ليس سوى قيد في دفتر، يتوسع كلما زاد الاقتراض، وتنتفخ معه أرباح أصحاب السلطة المصرفية، على حساب الناس الذين يكدّسون "أرقامًا" في حساباتهم، لا تساوي شيئًا في الحياة الواقعية. ومع كل أزمة، تُنتج المصارف التضخم عمدًا، لا لضرورة اقتصادية، بل لأن لا أحد يريد التنازل عن ربحه، ولو كان الربح دمًا. فيرتفع السعر، وتُطبع العملة، وتُحرق القوة الشرائية، ويموت المواطن وهو يبتسم لسعر صرف جديد في السوق السوداء.

المال ليس ورقة، ولا رقمًا، ولا شاشة. المال هو الثقة. وإذا ماتت الثقة، مات الاقتصاد، ومات العقد الاجتماعي، وماتت العدالة. المال له ثلاث ركائز: وعاء يحمله (ورقة أو رقم)، قيمة اسمية (10 أو 100)، وقوة شرائية هي جوهر اللعبة. والتضخم، كما يحصل اليوم، ليس مرضًا طبيعيًا، بل قرار بشري لإضعاف الناس وتعظيم ربح أصحاب القرار.

إنهم لا يريدون مالك فقط. يريدون أن تعتاد خسارته. يريدونك أن تنسى أنك تملك شيئًا. يريدون أن تقبل أن يُخصم منك، وأن تبتسم وأنت ترى اسمك ما زال على شاشة الحساب. فلتكتب هذه السطور لمن يأتي بعدك. قل لولدك إنك لم تكن غبيًا... بل كنت محاصرًا بنظام يعرف كيف يشرّع السرقة، ويحوّل الفشل إلى ربح، ويخترع أسماءً للعملة حتى تصبح الليرة ألف وجه... ولا أحد يعرف كم بقي لك من حياة لتسترجع الحقيقة.