الإصلاح الشامل في لبنان: من مطلبٍ إصلاحي إلى شرطٍ لبقاء الدولة

الإصلاح الشامل في لبنان:  من مطلبٍ إصلاحي إلى شرطٍ لبقاء الدولة

يشهد لبنان منذ العام 2019 مسارًا انحداريًا غير مسبوق على المستويات المالية والاقتصادية والإدارية والقضائية، ما أدى إلى تفكك تدريجي في البنى المؤسساتية للدولة، وانحدار في ثقة المواطنين بها. في خضم هذا المشهد المأزوم، لم يعد الإصلاح بمفهومه التقليدي مجرد مطلب من مطالب التحديث أو التنمية، بل تحوّل إلى شرطٍ وجودي لاستمرار الدولة ومنع انهيارها الكامل. يتناول هذا المقال التحليلي ثلاثية الإصلاح المطلوبة – المالي، الإداري، والقضائي – في ضوء الأزمة اللبنانية المستمرة، مسلطًا الضوء على جذور الخلل، وأبعاد التدخل الخارجي، والفرص الممكنة للخروج من المأزق.

أولًا: الانهيار المالي – نتائج سياسات عشوائية ونظام ريعي

انفجرت الأزمة المالية في لبنان كنتيجة طبيعية لعقود من السياسات الاقتصادية الريعية والفساد البنيوي في إدارة المال العام. فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 95% من قيمتها، وجُمّدت ودائع المواطنين في المصارف تحت ذرائع متعددة، في ظل غياب أي خطة إنقاذية واضحة.

تكمن جذور هذه الأزمة في غياب الرقابة الفعلية على السياسات النقدية والمالية، وانعدام الشفافية في موازنات الدولة، فضلًا عن الارتهان لنظام مصرفي وظّف أموال المودعين في تمويل العجز العام. من هنا، تصبح الحاجة إلى إصلاح مالي شامل ضرورة لا تقبل التأجيل، يشمل:

· توحيد سعر الصرف

· إصلاح النظام الضريبي بما يضمن العدالة الضريبية الجبائية.

· ضبط الهدر في الإنفاق العام وأول الغيث تضخم القطاع العام ورواتبه.

· إعادة هيكلة القطاع المصرفي.

· تعزيز استقلالية مصرف لبنان ووضع حدّ للسياسات العشوائية.

ثانيًا: الإدارة العامة – جهاز مشلول تحت وطأة الزبائنية

تُعد الإدارة العامة مرآة الدولة وأداتها التنفيذية، غير أن هذا الجهاز في لبنان يشهد ترهلًا مزمنًا مردّه إلى المحاصصة الطائفية والسياسية، والتوظيف العشوائي القائم على الولاءات لا الكفاءات. يؤدي ذلك إلى غياب الفعالية في تقديم الخدمات العامة، وتضخم الجهاز الإداري من دون إنتاجية فعلية. يتطلّب الإصلاح الإداري مجموعة من الإجراءات الهيكلية، أبرزها:

· تحديث هيكليات المؤسسات العامة.

· اعتماد التوظيف القائم على الجدارة عبر مجلس الخدمة المدنية.

· تفعيل أنظمة الرقابة والمساءلة الداخلية.

· تعزيز الحوكمة الرقمية للحدّ من البيروقراطية والفساد.

· فصل الإدارة عن السياسة لضمان حياد المرفق العام.

ثالثًا: إصلاح القضاء – ضرورة لاستعادة العدالة والثقة

من دون قضاء مستقل، لا يمكن الحديث عن أي مشروع إصلاحي حقيقي . في لبنان، يعاني القضاء من تدخلات سياسية مباشرة، وغياب الضمانات الكافية لاستقلاليته، إضافة إلى ضعف في البنية التشريعية التي تنظم عمله. وقد شكّلت جريمة انفجار مرفأ بيروت مثالًا صارخًا على عجز القضاء في ظل الضغوط السياسية وغياب المساءلة.

يتطلب الإصلاح القضائي:

· إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية (كما اقترحته بعض الجهات القضائية والنقابية)

· حماية القضاة من التهديدات والتدخلات السياسية

· تطوير البنية التحتية والتقنية للمحاكم

· تعزيز دور مجلس القضاء الأعلى وضمان انتخاب أعضائه باستقلالية

رابعًا: الإصلاح كشرط خارجي وداخلي

لا تقتصر أهمية الإصلاح في لبنان على الداخل فقط، بل بات أيضًا مطلبًا ملحًّا من المجتمع الدولي وصندوق النقد والمؤسسات المانحة. وقد أصبحت أي مساعدات مالية مشروطة بإجراء إصلاحات واضحة وجدية تشمل القطاعات الثلاثة المذكورة. لكن يبقى العامل الحاسم في نجاح أي إصلاح هو توافر الإرادة السياسية الداخلية، التي لا تزال – حتى الساعة – غائبة أو خاضعة للتجاذبات والمصالح الفئوية.

إن الأزمة في لبنان ليست فقط مالية أو اقتصادية، بل هي في جوهرها أزمة نظام، تتجلى في عجز مؤسسات الدولة عن أداء دورها، وفقدان ثقة المواطن والمجتمع الدولي بها. من هنا، لا يمكن فصل الإصلاح الإداري والمالي والقضائي عن مشروع إعادة تأسيس الدولة على أسس جديدة: دولة القانون، والكفاءة، والمحاسبة .

إن غياب الإصلاح في هذه القطاعات الثلاثة لا يعني فقط استمرار الانهيار، بل يعني الدخول في مرحلة "ما بعد الدولة"، حيث يسود الفراغ والفوضى، وتنهار الثقة نهائيًا بأي إمكانية للتغيير من الداخل .

الإصلاح القضائي ليس فصلًا من فصول الإصلاح، بل مدخله الإلزامي. هو الشرط اللازم لإعادة الاعتبار للمحاسبة، وتفكيك منظومة الإفلات من العقاب، وتحويل الدولة من دولة زبائنية إلى دولة مواطنين. ولذلك، فإن أي مشروع إصلاحي يتجاهل القضاء، أو يؤجله، هو مشروع محكوم بالفشل سلفًا .

إن استقلال القضاء ليس مطلبًا تقنيًا، بل هو معركة سيادية من أجل استعادة الدولة من براثن الانهيار .

وعليه، فإن الإصلاح في لبنان لم يعد ترفًا أو خيارًا سياسيًا، بل هو ضرورة تاريخية ومصيرية، قد تكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ الكيان اللبناني من التفكك والانهيار ..