في معظم دول العالم، تُقاس الأزمات بخسائرها. في لبنان، تُقاس الأزمات بما لم يُحاسب عليه، وما استُكمل إنكاره، وما تكرّر رغم الكارثة. فخمس سنوات على الانهيار المالي والاقتصادي، لا يزال المشهد اللبناني يتّسم بكمٍّ هائل من الإنكار المؤسسي، والتهرّب من المسؤولية، ومقاومة المحاسبة، وكأن لا دولة انهارت، ولا مجتمع سُحق، ولا أموال نُهبت. أحدث ما فضح هذا الواقع هو قرار ديوان المحاسبة الذي كشف التجاوزات في صرف حقوق السحب الخاص البالغة 1.133 مليار دولار، والتي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي في عام 2021. تلك الأموال، التي جاءت في لحظة اختناق مالي، لم تُصرف وفق خطة وطنية واضحة، ولا ارتبطت بإصلاحات أو آليات حوكمة، بل جرى تبديدها في الإنفاق الجاري، خارج شروط وتوصيات الاستخدام الأمثل التي وضعها صندوق النقد. حكينا عنها
في موازاة هذا، أُعلن مؤخراً عن قرض جديد من البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار للمساهمة في إعادة الإعمار. ومع غياب آليات شفافة لإدارة الأموال، ومؤسسات تنفيذية موثوقة، فإن هذا القرض يبدو كمن يُضخ الماء في غربال مثقوب. فكيف نضمن أن يُستخدم لإعمارٍ فعلي، لا لإدامة شبكة الزبائنية السياسية نفسها التي خرّبت الدولة وأفقرت الناس؟
أما على صعيد التعيينات المالية، فلا يزال منطق المحاصصة يتحكّم بها، وكأن شيئاً لم يكن. فلا الكارثة المالية شكّلت رادعاً، ولا تحذيرات المجتمع الدولي دفعت نحو الكفاءة والاستقلالية. إن استمرار الزبائنية في مفاصل القرار المالي يُفرغ أي إصلاح من مضمونه، ويؤكد أن الانهيار لم يكن نتيجة خطأ، بل سياسة مستمرة.
وفي خضم هذا، وبينما كان اللبنانيون ينتظرون بقلق تداعيات الحرب بين إيران وإسرائيل على بلدهم، توقف القصف، لكن القلق لم يتوقف. فلبنان لا يزال ساحةً لا دولة، تتأثر دون أن تؤثر، وتُدفع إلى الخطوط الأمامية دون رأي أو قرار. فهل نستفيق من الغيبوبة الأمنية لنكتشف أن التهديد الأكبر ليس في الخارج بل في الداخل؟
على الجبهة المصرفية، تعود المصارف التجارية إلى الإعلانات والشاشات، تروّج لنفسها وكأنها كانت في عطلة، لا في صلب واحدة من أعنف الكوارث المالية. لا اعتراف، لا مراجعة، ولا حتى اعتذار، بل تسويق النسيان، وكأن الودائع لم تُحتجز، وكأن خمس سنوات من الإنكار يمكن أن تُمحى بحملة دعائية ناعمة.
وفي حين تحاول الدولة تحسين صورتها أمام الخارج، تواجه ضربة قوية مع تصنيفها من الاتحاد الأوروبي كدولة عالية المخاطر على الاستثمار والتعاون. تصنيف لا يأتي من فراغ، بل نتيجة تراكم فشل مالي، وانهيار مؤسساتي، واستمرار غياب الإرادة السياسية للإصلاح.
وهذا ما تؤكده وكالتا التصنيف الائتماني موديز وستاندرد آند بورز، اللتان لا تزالان تُثبّتان لبنان في خانة "التعثّر السيادي"، بما يعني أنه دولة عاجزة عن سداد ديونها، وتفتقر لخطة مالية قابلة للتنفيذ.
وفي ظل كل هذا، تبرز قضية إعادة الإعمار كعنوان قابل للاستثمار السياسي، لا كمشروع وطني جامع. فالخلافات على كيفية توزيع المساعدات، والجهة التي تديرها، تؤكد أن الإعمار بات رهينة المزاج السياسي، لا أولوية تنموية.
فما النتيجة؟ لبنان بلد يعيش على ما تبقّى من الذاكرة، لا على ما يُصنع من مستقبل. الإنكار مستمر، المحاسبة غائبة، والاستحقاقات تتراكم. وبين انهيار المصارف، وشلل الدولة، والتلاعب بالمساعدات، وتضارب المصالح، يسير لبنان بخطى ثابتة نحو نموذج الدولة الفاشلة ما لم يحصل كسرٌ حقيقي لمنظومة الإنكار، وفرض مسار واضح للمحاسبة والإصلاح.