باكورة الإصلاحات إلغاء قانون السرية المصرفية المشوه

img

 

أي متى سيحين الوقت الذي سيتماشى فيه لبنان مع متطلبات القرن الواحد والعشرين ويتخلى عن نظام «السرية المصرفية» الذي يعتمده منذ ستة عقود ونيف، وذلك لمواكبة المتطلبات العصرية لأصول الحوكمة الرشيدة وتسهيلاً لتطبيق قوانين المحاسبة والمساءلة ؟

فما هو مفهوم السرية المصرفية :

يندرج السر المصرفي بمعناه الواسع في إطار سر المهنة، وتحديدًا الموجب الملقى على عاتق المصرف بعدم افشاء الأسرار المصرفية المتعلقة بزبائنه والتي آلت إليه بحكم وظيفته أو بمعرض قيامه بهذه الوظيفة، وهذا الموجب فرضته نصوص عامة، كنص المادة 579 من قانون العقوبات اللبناني.

أما السرية المصرفية بمعناها الضيق فهي الموجب الملقى على عاتق المصرف بعدم افشاء الأسرار التي حازها بفعل وظيفته، ولكن بموجب نصوص قانونية صريحة تفرض التكتم وتعاقب الإفشاء.

وتفرض الأنظمة المصرفية المعتمدة في مختلف الدول، السرية على العمل المصرفي، ولكن بدرجات متفاوتة، كما تحرص البنوك على عدم تقديم المعلومات عن العملاء إلا لمن تحددهم القوانين، وذلك انطلاقًا من الحرص على حماية الحق الشخصي للعميل الذي يخشى المزاحمة القائمة في حقل الصناعة أو التجارة واطلاع منافسيه على حقيقة أموره. هذا بالإضافة إلى مصلحة المصرف نفسه في الإحتفاظ بسرية اعماله عن غيره من المصارف الأخرى التي تنافسه محليًا وعالميًا.

لطالما أعتبرت السرية المصرفية وسيلة تساهم في جذب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، وتدعم الثقة بالإقتصاد القومي وبالجهاز المصرفي، وتشجع الإستثمار، وتوفر الثـقـة بالإئتمان المصرفي، مما ينعكس ايجابًا على مناخ الإستقرار الإقتصادي. وعلى الرغم من الإيجابيات المرتبطة بسرية الحسابات المصرفية، ولكن أين نحن منها الآن بعد كل الكوارث والموبقات التي إرتكبت بإسمها وبفعلها ومفعولها؟

لقد استفاد لبنان من اعتماد السرية المصرفية في ظل الظروف السياسية والإقتصادية التي كانت سائدة العام 1956، (تاريخ اعتماد لبنان السرية المصرفية)، والتي ساهمت في جذب رؤوس الأموال الأجنبية وبخاصة الخليجية، وبات عليه اليوم أن يطور هذه السياسة وفق للمتغيرات التي طرأت في الداخل والخارج، وأدت إلى نشوء انماط جديدة في المناهج الإقتصادية الدولية ومن بينها توزيع الثروات الطبيعية وبرامج التنمية والقروض والمساعدات المالية، والتعاون الدولي لمكافحة الأعمال الإرهابية ومظاهر الإستغلال والتحكم والإبتزاز والسياسة التشريعية المرنة، ومثل هذه الإعتبارات هي الوحيدة التي ستجعل حركة رؤوس الأموال تعود إلى لبنان بصورة كبيرة في حال توافرت تدابير ملائمة وواضحة تنسجم مع مجالها الحيوي. بالأساس لا جدوى من ملاحقة المجرمين الصغار إذا تعذر ضرب منظمات الإجرام وتجار التلاعب بالقوانين. وبالتالي، لا بد من تمكين المحققين من بلوغ المصارف للحصول على براهين، لمنع المجرمين من ايداع اموالهم فيها من دون أن يزعجهم أحد.

إن إرادة المشترع اللبناني، عند اصداره قانون السرية المصرفية وتعديلاته ، لم تكن منصرفة إلى بسط حماية قانونية على أموال محصلة بطرق غير مشروعة، بدليل ما ورد في أسبابه الموجبة حول الغاية منه، وهي: السعي لجذب الرساميل الأجنبية إلى لبنان وبصورة خاصة رساميل الدول العربية، وإن المنافع التي سيجنيها الإقتصاد ستعوض كفاية عن الأضرار التي قد يلحقها هذا التشريع بخزينة الدولة لجهة تحصيل الضرائب.ولكن بعد مرور أكثر من ستة عقود ونيف على إقرار هذا القانون ذهبت مفاعيله أدراج الرياح ولم يعد يعتبر سوى عائقاً أمام الحداثة والعصرنة التي تقتضي في جزء كبير من ادارتها على المساءلة والمحاسبة.

أن ما يعتمده لبنان من أنظمة متداخلة في حفظ المدخرات وإدارة الأموال لم يعد منسجماً مع القواعد المحدثة في المنظومة المالية العالمية ومع المتطلبات الصادرة عن الهيئات الدولية المعنية بمنع مرور عمليات أو تحويلات مالية عبر القنوات المصرفية. إن تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج والمغتربين تتم بمعظمها بالدولار وتبلغ بالمتوسط نحو 7 مليارات دولار سنوياً. وهي حالياً الرئة شبه الوحيدة التي تؤمن تدفقات العملات الصعبة إلى الداخل فكيف السبيل لمراقبتها أو ضبطها في ظل تهرب الجميع عن إتباع التحويلات بواسطة المصارف والجنوح نحو إقتصاد الكاش النقدي.

في القانون المتصل بالسرية المصرفية المعتمد في لبنان، عدلت بعض المواد في القانون ذاته والصادر عام 1956، إضافة الى بعض التعديلات التي تشمل قانون أصول المحاكمات الجزائية وقانون النقد والتسليف وقانون الإجراءات الضريبية الممدد وذلك من ضمن مندرجات الاتفاق المبدئي مع بعثة صندوق النقد على برنامج تصحيح اقتصادي ومالي تحت مسمى  (التسهيل الائتماني).

ولكن برز من هذه التعديلات حظر فتح حسابات جديدة للمواطنين وكذلك حسابات مرقمة وأيضاً تأجير خزائن حديدية لزبائن لا يعرف أصحابها غير مديري المصرف أو وكلائهم، مع وجوب تحويل الحسابات القائمة والخزائن المؤجرة خلال مهلة ستة أشهر من نفاذ القانون، إلى حسابات عادية تنطبق عليها جميع متطلبات مكافحة غسل (تبييض) الأموال وتمويل الإرهاب، فضلاً عن تأجيل أي عمليات سحب للأموال من حسابات الودائع المرقمة والخزائن خلال الفترة الفاصلة لتحويلها إلى حسابات عادية.

كما أن تعديل قانون السرية المصرفية كان هدفه منع الاثراء الغير مشروع والمضاربات على العملات وتبييض الاموال الناتج عن التجارة الكبيرة الغير مشروعة والتي هي أصلاً ممنوعة بالقانون فأصبح قانون اللا سرية مصرفية بحيث يمكن استعمال القانون المعدل لاستباحة الناس استنسابياً أو استهدافاً.

 

المطلوب اليوم أن يسير لبنان الى إلغاء عقد السرية المصرفية بالكامل بعدما تم رفعها جزئياً من خلال اقرار قانون تعديل السرية المصرفية الذي ادى الى إخراج لبنان من النظام المالي المتعارف عليه عالمياً اي المصرفي والسويفت والتحويلات وجعل ذلك أداة لتحريك الإقتصاد النقدي الرديف الخارج عن نطاق سيطرة الأجهزة الرسمية وعبرها الأجهزة المالية العالمية ؟

إن المنطق العلمي يفترض أنه لا يمكن تعديل القانون الذي يتسم بالقوة المطلقة جزئياً او تشويهه بحيث يصبح يمتلك قوة جزئية في ظل عدم قدرة مؤسسات الدولة الرسمية على فرض تطبيق القانون بالقوة المطلقة وبالعدالة الكاملة على كافة اراضيها وعلى كل مواطنيها.

فأي متى سيحين وقت العصرنة والحداثة وسيقدم من بيدهم السلطة على إلغاء قانون السرية المصرفية ومفاعيله العجيبة كما هو معمول به اليوم .