لبنان : "دولة النصف … طريقٌ قصير نحو نصف دولة"

لبنان : "دولة النصف …  طريقٌ قصير نحو نصف دولة"

في تاريخ الدول، لا شيء يساوي كلفة القرارات غير المُكتملة. وإذا كان للبنان أن يختصر أزماته السياسية والاقتصادية والإدارية بعنوان واحد، فهو بلا شك أننا نعيش في دولة تُتقن الوصول إلى منتصف الطريق… ثم تتوقّف. دولة تنفّذ نصف إجراء، تُقرّ نصف إصلاح، وتطلق نصف مشروع، وتكتفي بنصف حلّ للأزمات التي تتطلّب حلولاً كاملة وحاسمة.

منذ ثلاثة عقود، ولبنان يتحرّك بمنطق "الترقيع": خطة للكهرباء نصف خطة ولا تكتمِل، إصلاح قضائي يُناقَش ثم يُحبس في الأدراج، موازنة تُقرّ بلا رؤى ومن دون إقرار قطوعات حساب، مكافحة فساد تُعلن ولا تُنفّذ، ودولة ترفع شعارات الإصلاح فيما تُبقي على منظومات التعطيل. والنتيجة واحدة: أزمة تتجدّد وتتمدّد لأن «النصف» لا يصنع دولة، بل يصنع فراغاً دائماً.

القرار النصفي ليس مجرد تقصير إداري، بل هو نهج سياسي يتهرّب من الحسم لأنه يتهرّب من تحمّل المسؤولية. فالإجراء الكامل قد يُزعج مستفيداً أو يُحاسِب فاسداً، أما الإجراء النصفي فيُرضي الجميع مؤقتاً ويؤجل الانفجار… لكنه أكيد لن يمنعه حتى ولو بعد حين. هكذا أصبحت الدولة اللبنانية أسيرة تسويات صغيرة بدلاً من أن تكون إطاراً لقرار كبير.

الكهرباء مثال نموذجي: خطط تتغيّر، عقود تتبدّل، لجان تُشكّل، وكل ذلك بلا تنفيذ فعلي لإنتاج أو استجرار أو إصلاح. بناء معامل جديدة؟ نصف قرار. تحرير القطاع ؟ نصف خطوة. جباية فعّالة ؟ نصف تطبيق. والنتيجة: فاتورة هي الأغلى في المنطقة مقابل أسوأ خدمة.

الأمر نفسه ينسحب على معالجة النزوح، إصلاح القطاع المصرفي، تنظيم المالية العامة، إدارة الأملاك البحرية، ضبط الحدود، وحتى تحديث الإدارة. كل الملفات تبدأ بقوة وتنتهي بتسويات وتعهدات تُفرغها من مضمونها. الدولة التي تُنتج نصف قرار تُنتج نصف استقرار، ونصف نمو، ونصف ثقة … وفي النهاية نصف دولة.

لكن الواقع الاقتصادي والاجتماعي اليوم لم يعد يحتمل "أنصاف الحلول". فلبنان يقف أمام مفترق تاريخي: إما دولة قادرة تُنجز وتُحاسب وتُقرر بالكامل، أو انهيار متواصل تُديره سلطة لا تملك شجاعة الذهاب إلى النهاية.

إن إنقاذ لبنان لا يحتاج عبقرية، بل جرأة في تطبيق ما نعرف أنه ضروري: استقلال القضاء بالكامل، تحرير القطاعات الإنتاجية بالكامل، ضبط المالية العامة بالكامل، اعتماد الحوكمة الرشيدة بالكامل… أي كسر حلقة "النصف" التي أفرغت الدولة من مضمونها.

لبنان لا ينقصه الخبراء ولا الخطط ولا الفرص، بل ينقصه أن يصبح دولة كاملة بدلاً من دولة نصفها قرار ونصفها أزمة. فلا يمكن لأمة أن تعيش بنصف مؤسسات، ولا لمجتمع أن ينهض بنصف إصلاح، ولا لدولة أن تستمر وهي تُدار بعقلية " نُقَرِّر… لكن لا نُكمِل" .

وما هو أخطر من ذلك أن دول النصف كثيراً ما تتحوّل، مع مرور الوقت، إلى "نصف دولة" فعليّة بالمعنى الجغرافي والسيادي والسياسي . فالعجز المزمن عن اتخاذ القرارات الكاملة يخلق فراغات، والفراغات تملؤها قوى الأمر الواقع، وتتشكل عندها إدارات موازية وسلطات بديلة تتجاوز الدولة الأم. وحين تتوسع هذه البقع الرمادية، يصبح التقسيم أمراً غير مستبعد، لا لأن هناك مشروعاً معلناً، بل لأن الدولة الضعيفة التي تكتفي بأنصاف الإجراءات تفتح الطريق أمام أنصاف الكيانات. هكذا تتحوّل "دولة النصف" من خيار سياسي إلى واقع جغرافي، ومن تسوية ظرفية إلى تهديد وجودي، ما يجعل استكمال الإصلاحات قراراً مصيرياً لا يحتمل التأجيل.

لقد حان الوقت للانتقال من دولة النصف إلى دولة الفعل. فالنصف لا يبني وطناً، ولا يصنع ثقة، ولا يرسم مستقبلاً. الدولة الكاملة وحدها تفعل ذلك.