حركة الشيكات ال 2025 وفق أحكام التعميم الأساسي رقم 165

حركة الشيكات ال 2025 وفق  أحكام التعميم الأساسي رقم 165

بعد أن كان لمصرف لبنان، ولسنوات طويلة، اليد الأقوى في تمويل عجز الخزينة، ها هو اليوم يواصل عملياً إنقاذ السلطة السياسية من نتائج فشلها في إقرار الإصلاحات البنيوية وتنفيذها. انتقل الدور من تمويل مباشر للعجز إلى شكلٍ آخر من الدعم غير المباشر: الإبقاء على الحدّ الأدنى من الحياة في النظام المصرفي وفي وسائل الدفع، بما يسمح للمنظومة بتأجيل الاعتراف الكامل بالخسائر وبضرورة إعادة الهيكلة الشاملة. وفي الإنصاف، لا بد من الإشارة إلى أنّ محاولة محاربة اقتصاد الكاش لم تبدأ اليوم؛ بل انطلقت فعلياً مع التعميم 165 في نيسان 2023، حين سعى مصرف لبنان إلى إعادة جزء من الكتلة النقدية المتفلتة إلى قنوات الدفع النظامية. هنا يجب أن يُعطى المصرف المركزي حقه المهني حيث يستحق، من دون أن يُحجَب ذلك عن حقيقة موازية: أنّه، في الوقت نفسه، لم يتوقف يوماً عن أداء دور المموِّل أو المُنقِذ للطبقة السياسية، بشكل مباشر حيناً وعبر آليات نقدية ومالية ملتوية أحياناً أخرى.

تُظهر أرقام الشيكات الفريش المقطوعة حتى نهاية تشرين الأوّل 2025 تحوّلاً عميقاً في بنية المشهد النقدي والمالي في لبنان، يتجاوز كونه مجرّد تحسّن تقني في الإحصاءات. فارتفاع عدد الشيكات الفريش من حوالي 25,117 شيكاً في الأشهر العشرة الأولى من 2024 إلى نحو 77,247 شيكاً في الفترة نفسها من 2025، إلى جانب ارتفاع مساهمتها في إجمالي نشاط المقاصّة من نحو 13.28% إلى أكثر من 55.29%، يعني أن جزءاً متزايداُ من التعاملات الاقتصادية يعود اليوم إلى القنوات المصرفية الرسمية بدل أن يبقى أسير الاقتصاد النقدي (الكاش) غير المرصود. هذا التحوّل يكتسب أهمية خاصة في بلد يواجه ضغوطاً متزايدة على صعيد مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، لأن توسّع استخدام الشيكات الفريش – الخاضعة للرقابة والتوثيق – يعيد بعض القدرة للسلطات النقدية والرقابية على رؤية حركة الأموال وتتبعها، بدل أن تبقى خارج الرادار في صناديق المحال التجارية والخزنات المنزلية.

في المقابل، تكشف التفاصيل البنيوية لهذه الأرقام عن وجه آخر أقل طمأنة: تعمُّق الدولرة وترسّخ اقتصاد الفريش دولار. فعدد الشيكات الفريش بالدولار الأميركي ارتفع من نحو 17,425 شيكاً إلى حوالي 57,085 شيكاً في الفترة نفسها، وارتفعت قيمتها من حوالي 230.005 ملايين دولار إلى 771.22 مليون دولار، في حين أصبحت الشيكات المدوَّنة بالعملات الأجنبية تشكّل قرابة 73.90% من عدد الشيكات الفريش المصفّاة. هذا يعني أن النشاط الاقتصادي القابل للقياس والمار عبر النظام المصرفي يجري في معظمه بالدولار، بينما تستمر وظيفة الليرة اللبنانية في التقلّص تدريجياً كأداة دفع وحفظ قيمة، وتنحصر أكثر في التعاملات الصغيرة والفئات الأكثر هشاشة.

بهذه الصورة، ترسّخ الأرقام واقع اقتصاد ثنائي العملة: طبقة من المعاملات المُمَأسسة، بالدولار الفريش، تمر عبر المصارف والمقاصة وتستفيد من قدر من الحماية والشفافية؛ مقابل طبقة أخرى بالليرة والكاش، أقل تنظيماً وأكثر عرضة للتآكل مع كل موجة تضخّم جديدة. النتيجة النهائية هي تضييق هامش السياسة النقدية بالليرة، وتعقيد مهمة أي خطة تعافٍ جديّة، لأن إعادة بناء الثقة بالنظام المالي ستتطلّب ليس فقط زيادة التعامل عبر القنوات الرسمية، بل أيضاً إعادة تعريف موقع الليرة ودورها في اقتصاد جرى فكّ ارتباطه بها فعلياُ من خلال هذه الأرقام نفسها.

في ضوء ذلك، يبدو مصرف لبنان عالقًا بين واجبين متناقضين: من جهة، الحفاظ على حدّ أدنى من الاستقرار النقدي وتشغيل النظام المصرفي عبر أدوات من بينها التعميم 165 ومحاولة لجم اقتصاد الكاش؛ ومن جهة أخرى، عدم الاستمرار في لعب دور المموِّل الأخير لفشل الطبقة السياسية. وهنا يصبح السؤال مشروعاً: هل يمارس المصرف المركزي فعلاً سياسة نقدية مستقلّة تُحفِّز الإصلاح وتفرض كلفته السياسية، أم أن استمرار هذه الهندسة المؤقتة لا يفعل سوى تعميق اقتصاد الدولرة ورفع كلفة التصحيح عندما يحين أوانه؟