إعادة هيكلة القطاع العام اللبناني ضرورة وطنية من أولويات الإصلاح

img

يعتبر اقتصاد لبنان من اقتصادات الدول النامية التي تتبع النظام الإقتصادي الحر، حيث يساهم القطاع الخاص في 75٪ من الطلب الكلي وحيث تواجد قطاع مصرفي كبير يدعم هذا الطلب. لدى لبنان نظام سوق ذات قدرة تنافسية عالية وحرة وقوية تتيح للإقتصاد التحرك وفق القدرة التجارية العالية. الاقتصاد اللبناني هو خدماتي المنحى، تلعب الدولة والقطاع العام الدور الأساسي في تحريك العجلة وتسيير نشاط القطاع الخاص وتشرف على نمو السوق والحركة الإقتصادية .

يتمتع لبنان باقتصاد السوق الحرة وتقاليد تجارية قوية، حيث لا تقييد للاستثمار الأجنبي ولا شروط توضع على المسثمرين ومع ذلك، فإن مناخ الاستثمار يعاني من الروتين، والفساد، وقرارات الترخيص التعسفي، والإجراءات الجمركية المعقدة، والضرائب المرتفعة، والتعريفات والرسوم، والتشريعات القديمة، وعدم كفاية حماية حقوق الملكية الفكرية بسبب عقم إداء القطاع العام اللبناني.

في مالية الدولة ذات النظام الإقتصادي الحر تتألف الموازنة العامة من نفقات وإيرادات تلتزم فيها الدولة بالإنفاق على رواتب وأجور القطاع العام إضافةً الى الإنفاق الإجتماعي الذي يعتبر ضرورة لتأمين العدالة الإجتماعية وتأمين التنمية المستدامة .في المقابل تقوم بجباية الضرائب والرسوم والإيرادات الجمركية مقابل لتغطية هذا الإنفاق.

ففي العقود الثلاثة الماضية، أدارت الطبقة الحاكمة اللبنانية، التي تتألّف من نخب متداخلة في السياسة والأعمال، البلاد على نحوٍ تسبّب باستنزاف مقدّراتها وانهيارها. وقد يكون تعاطي الطبقة السياسية مع القطاع العام السبب الرئيسي للإنهيار.

منذ العام 2005، يتصف الوعاء الإقتصادي اللبناني باللامساواة الشديدة في المداخيل والثروات على السواء. ففي المعدّل، تستأثر فئة الـ1 في المئة الأكثر ثراءً من السكان بنسبة 25 في المئة من الدخل الوطني، فيما تحصل شريحة الـ 50 في المئة الأكثر فقرًا على أقل من 10 في المئة.

تتحمّل نخب رجال الأعمال والسياسيين مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد. فقد تقاسموا القطاعَين العام والخاص في ما بينهم، وأنشأوا منظومة تتيح لهم اقتطاع إيرادات مالية من أي نشاط اقتصادي تقريبًا.

ففي أولوية الخطوات الإصلاحية إقرار قانون إعادة هيكلة القطاع العام اللبناني بعد أن أصبح عبئاً على مالية الدولة ويستنزف أكثر من 70 % من إيرادات الدولة السنوية. رغم ذلك فالقطاع العام في لبنان يضم نخبة من الموظفين الشرفاء والكفوئين الذين باتوا مسحوقين بفعل تدخل الطبقة الحاكمة في كافة أعمال القطاع العام بعد أن أتخمته بالزبائنية والمحسوبية وبعد تغييب الأجهزة الرقابية وتعطيل دورها بالكامل .

 

لقد أدت الصدمات المتتالية والمتراكمة التي ضربت لبنان منذ صيف 2017 إلى تداعيات اجتماعية خطيرة. فقد انهارت مالية الدولة جرّاء الأزمة المالية وجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت وسوء الإدارة والحوكمة ، ما ألقى بـ 75 % من السكان في هاوية فقر متعدد الأبعاد. وبالرغم من هذه الظروف، تجنبت الطبقة الحاكمة وضع حد للأزمات عن طريق اعتماد تدخلات ممنهجة، مطيلةً بذلك عمدًا أمد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. لقد صعّبت هذه الصدمات غير المسبوقة على الدولة مهمة توزيع الإنفاق الحكومي. وبدل الذهاب لإصلاحات جذرية على مستوى القطاع العام المترهل ذهبت الحكومات الى اجراءات ترقيعية حيث لجأت الى تكثيف الإنفاق دون التطرق الى الإصلاح. هذا الأمر زاد مالية الدولة تعقيداً وحولها الى مشكلة مستعصية وأصبح لا بد من الذهاب مباشرة الى تنفيذ الإصلاحات الضرورية التي تبدأ فوراً بإقرار قانون إعادة هيكلة القطاع العام وفق أسس ومبادئ عصرية يراعى فيه الترشيق والترشيد والإنتاجية العالية. لقد تغاضت الحكومات المتعاقبة فترة طويلة عن التطور التكنولوجي والذكاء الإصطناعي وثورة المعلوماتية وقد آن الأوان للوصول الى الحوكمة الرشيدة والحكومة الإلكترونية ذات الإنتاجية الفعالة والسريعة ، لأن الإستمرار في تغييب الإصلاحات الجذرية والفورية، يمهد لإعلان لبنان دولة فاشلة .

صحيحٌ أن التغيير السياسي والمؤسسي الواسع أمرٌ ضروري، ولكن الإصلاح المالي ضرورة فورية ويجب أن يرتكز على سد مزاريب الهدر والفساد والإنفاق غير المجدي .