الإصلاح والإنقاذ الإقتصادي المنشود يبدأ بإصلاح القطاع التربوي والتعليمي

img

تعود الحكاية الى زمن قديم ، حين سارت غالبية الحكومات في لبنان عن قصدٍ أو غير قصد، نحو إهمال وتهميش التعليم الرسمي (الحكومي) لصالح التعليم الخاص ومؤسساته وتحديداً المؤسسات الدينية، فحصل الفصل بين تعليم عامة الشعب من جهة، والمجموعات النخبوية والطائفية من جهة أخرى، وظهرت الصراعات الطبقيّة والفكرية داخل المجتمع، كون المؤسسات التعليمية بمجملها لا يمكن عزلها عن السياسة والثقافة والاقتصاد في أيّ مجتمع.

هكذا وبمجرد تخلّي الدولة عن دورها في بناء وإدارة وتطوير القطاع التربوي والتعليمي، تحت حُجج واهية، مثل إفتِقارها للأموال والموازنات (علمًا أنها تسخّى في الإنفاق على تمويل مشاريع بلا جدوى اقتصادية أو مجتمعية) تمّ "تسليع" التعليم فنمّت مدارس خاصة أجنبية ومحلية فئوية ومذهبية، بتسمياتٍ ومستوياتٍ مختلفة وبخلفيات تعليمية مؤدلجة ، بعدما تراجعت المنظومة التعليمية الوطنية وتقاعس وزراء التربية المتعاقبين والسلطة السياسية عن ممارسة الحوكمة الشفافة والرشيدة في قطاع التعليم مما أسفر عن هدر وفاقد لكل المقومات التي توفرت من دعم للقطاع التعليمي الرسمي مقابل ضمان الدعم لقطاع المدارس الخاصة.

"التعليم دخل دائرة الخطر" ؛ نعم بهذه الجملة تصف التقارير الدولية وضع التعليم في لبنان في ظل عدم استقرار كبير شهدته الأعوام الدراسية خلال الأزمة الاقتصادية التي ألمّت به منذ العام 2019، إلى جانب جائحة كورونا وتأثيرها في هذا القطاع بشكل كبير، فشهد مراحل عديدة من التعثر في بدء العام الدراسي، وصولاً إلى إضرابات الأساتذة المستمرة حتى اليوم لتحصيل الحد الأدنى من حقوقهم التي كلما وصلوا الى تحصيل جزء منها أطل وزير التربية من النافذة ليخبرهم بأن حقوقهم لن تحصل إلا من خلال الحوافز الدولارية وعبر مدفوعات عشوائية ترد من المنظمات الدولية . أظهرت دراسات عديدة أجريت أن مجموع الإنفاق على التعليم من ميزانية وزارة التربية، بالإضافة إلى الهبات والقروض، وصل إلى 14.77 مليار دولار، 2.27 ملياراً منها هي عبارة عن هبات ومنح عينية في الفترة ما بين 2011 و2023، ذهب منها 900 مليون دولار كمساهمات لقطاع التعليم الخاص، في وقت يرزح فيه القطاع التعليمي الرسمي تحت أزمة كبيرة.

وأضافت إحدى هذه الدراسات أن "64% من هذه المساعدات يستفيد منها ذوو الدخل العالي، فيما 16% فقط من قيمة التقديمات المدرسية تذهب للفقراء"، وتخلص إلى أن "هذه الأرقام توضح جليّاً كيف أن سياسة الدولة اللبنانية ووزارة التربية تدعم القطاع الخاص على حساب القطاع الرسمي، وتراعي مصالح المدارس الدينية التابعة للأحزاب السياسية".

 

يعتمد قطاع التعليم الرسمي في لبنان على الأساتذة المتعاقدين بشكل عام، وهم يشكلون تقريباً 70% من الطاقم التعليمي في التعليم الأساسي، و30% في الثانوي، أما أساتذة المهني المتعاقدون فنسبتهم 90%، وتالياً فإن إضراب الأساتذة المتعاقدين تحديداً كفيل بإيقاف قطاع التعليم الرسمي وتعطيل السنة الدراسية في وقت تبدو فيه الوزارة غير معنية بإيجاد حل فعلي للأزمة خارج دائرة "الترقيع لا بل تعمل على دفع حركة الروابط واللجان في التعليم الرسمي باتجاه تبني مطالب الوزير بالحوافز الدولارية وإلا فلا إنطلاق للعام الدراسي الحالي.

فمنذ بداية الأزمة عام 2014، وبإستثناء مرحلة الوزير الآدمي طارق المجذوب لا تقوم وزارة التربية ومعها الحكومات إلا بخطوات لمواجهة المشاكل بعجز مطلق؛ وأوّل هذه الإجراءات هي طلب الدعم من المؤسسات والجمعيات الدولية التي يهمّها دعم قطاع التعليم، حيث الوزير وفريق عمله إضافة للمدراء العامين في وزارة التربية ومعهم أيضاً فرق عملهم يستطيعون تأمين مداخيل ومصارفات كفيلة بالسيطرة على القطاع وتحريكه بإتجاه تحقيق الأهداف الإستراتيجية ألا وهي إنهاء التعليم الرسمي لصالح التعليم الخاص وقد أصبحت سياسة وزارة التربية في طلب الدعم مع الوقت سياسة الدولة اللبنانية كاملةً في مواجهة الأزمة وتشمل الوزارات كلها ولا تقف عند وزارة التربية.

كيف من الممكن أن تصلح أوضاع دولة في بلدِ إنهار فيه القطاع التعليمي والقيمون على هذا القطاع يمعنون ضرباً وإفساداً ودماراً بدل طرح المبادرات لإنقاذ القطاع.

ألم تصبح إحدى المسلمات في العالم مقولة عبد الله السعدون " أن التعليم بنوعيه الكمي والكيفي، هو الطريق إلى النهوض من مستنقع الجهل والتخلف، والذي أهم عناصر نجاحه المعلم والمربي الناجح، المحب لعمله ثم المنهج الذي يسهم في فتح العقول وشحذها لا برمجتها وتدجينها.”

لا يمكن توقع إصلاح من فاسدين ومن سياسيين ينفذون مخطط شرير لضرب وإنهاء القطاع التربوي والتعليمي الرسمي في لبنان لا بل أن هذا القطاع نظراً لأهميته بات بحاجة الى لجنة تحقيق قضائية - برلمانية تعيد صياغة الدور الإستراتيجي للقطاع ومقدار مساهمته في عملية الإصلاح والإنقاذ الإقتصادي المنشود فتضع القوانين الإصلاحية العصرية المناسبة خلال فترة ستة أشهر وتعمل على محاسبة كل من عبث وأساء لقطاع التعليم الرسمي في لبنان.